أمي أنا مدرسة

في أوائل التسعينيات جلست أمي مع أخي الكبير " تهشتكه " فيضحك بصوت عالِ في لحظات إنسانية غاية في الجمال إذا اتفقنا أن علاقة الأم بطفلها هي العلاقة الأنقى في عالم العلاقات الإنسانية.. جلسوا على هذا الحال حتى قطع ضحكاتهما صراخ أم في الطابق الذي يعلونا تدعي على إبنها بمنتهى الإخلاص و " تحسبن " عليه بكل ما أوتيت من قوة لأن درجته في إمتحان الرياضيات كانت " مُهزّقة " على حد وصفها .

تحمّر وجنتي أمي ويصيبها الهلع من " الزعيق " وحلقة الذكر التي خصصتها جارتنا للدعاء على ابنها الشقّي.. فتغلق الشباك بسرعة وتعود إلى أخي الكبير تضمه وتقول " معقولة يا مصطفى ؟.. معقولة ممكن أزعقلك كده يا حبيبي ؟ "
يبول مصطفى على نفسه فتتسخ ملابسهما فتبتسم وتقول في حنان " فداك يا حبيبي " .
  
_____________
يهم مصطفى للذهاب إلى المدرسة وتعد أمي الفطور بعد أن أيقظت ثلاثتنا " بطلوع الروح " في صباح شتوي بارد وبائس.. يصر مصطفى على الذهاب " بلبس خروج " ويقصد زي مخالف لزي المدرسة متعللًا أنه يوم الامتحانات الأخير وأنه كبر أخيرًا وفي تانية إعدادي ومن المؤكد أن أصدقاءه سيسخرون من هيئته إن لبس زي المدرسة في اليوم الذي من المفترض أن يكون فيه " روش طحن " ويذهبون معًا إلى وندرلاند بعد الامتحان.. وافقت أمي على مضض ولكن ما أن رأت مصطفى يلبس طاقيته " النايكي " الجلد الجديدة حتى شاطط ومنعته من النزول حتى يخلعها وهو ما رفضه مصطفى, فأخذتها من على رأسه وألقتها من الشباك مع كوكتيل دعوات مختلفة.

لأمي أسلحة مختلفة تستخدمها عندما تعاقبنا أو تريد إيقاظنا.. "الشبشب" كان السلاح الأقل استخدامًا عكس كل الأمهات وبالتأكيد كان مؤلما لأنها ليس فقط كانت ترميه من بعيد وإنما تمسكه في يدها وتقوم بتثبيتنا باليد الأخرى حتى تستطيع الإنهال علينا بأكثر الضربات الممكنة .
ورغم ذلك ظل السلاح الأكثر إيلامًا والاكثر استخدامًا هو " رشاش المياه ".. بعد يوم شاق من المدرسة نعود للمنزل مهرولين على المطبخ قبل حتى تغيير ملابسنا وأحيانًا قبل دخول الحمام لنلتهم طعام أمي العبقري بأطباقه وبالطبع أنا هنا لا أقصد أيام الرز والبسلة الحزينة .
ندخل للنوم واحدًا تلو الأخر بعد مهاترات شديدة مع أمي لغلق التليفزيون لأن المحقق كونان وسابق ولاحق مش هينفعونا في الامتحان لما نطلع بملحق .
يبدأ استخدام رشاش المياه بعد ثماني ساعات من النوم المتواصل وتستهلك أمي أحبالها الصوتية في النداء علينا و" الشخط " داخل اَذاننا فتبدأ بالرش بالماء المثلج على جسدنا الضئيل المنكمش من البرد ثم تبدأ في شد الألحفة والبطاطين من فوقنا وتخرج بهم خارج الغرفة م تعود ليصبح جسدنا يصارع العراء والماء مجتمعين .
تقول " ما طبعًا مانتوا بتعوضوا السهر اللي سهرتوه طول شهور الصيف " ومش عارف ايه العلاقة لحد دلوقتي بس تمام .

أمي تلومني عندما أعود من الخارج حاملًا فيروس الانفلونزا اللعين ومدروخ وتعبان لأني مابسمعش الكلام وبخفف هدومي ومأتب ضهري أُدام الزفت الكمبيوتر.. ولكنها تسهر حرفيًا معي حتى وأنا " شحط " بالليمون الدافئ والعسل الأسود بالليمون والكمادات الباردة بالليمون وأي شئ فيه ليمون حتى استرد عافيتي وتهبط حرارتي .

أمي يصيبها الإحباط و" تقطّم " فيا عندما تقل درجاتي ولم تنبهر عندما أحصل على الدرجات النهائية ولكنها تفاجئني بشعرية باللبن مثلًا ودعوة حلوة أوشئ كنت أريده منذ مدة .

أمي كانت تقوم بإعداد صينية بسكويت بالشيكولاته منذ أكثر من أربعة عشر عامًا وطعمها الساحر لايزال في فمي حتى الاَن.. المدهش أنها كانت تستخدم بسكويت المدرسة الردئ الذي كان يوّزع في المدارس الحكومية والتجريبية.. بتعمل من الفسيخ شربات حرفيًا .

أمي بتقول " أنا مش عايزة حاجة في عيد ميلادي ولا عايزة حاجة في عيد الأم.. بس عايزاكو تبقوا شاطرين وكويسين بس ".. الغريب أننا عندما ننصت للنصيحة تلومنا أننا لم نهديها شئ.. ولكننا نعوضها بأي شئ بعدها فتفاجئنا قائلة " هو بعد العيد بيتفتل كحك ؟ " وبتاخدها مننا عادي وتضحك .

أمي مُحفظة قراَن تذهب للمسجد وتعود لإعداد الطعام  وتقوم بالغسيل وتنظيف المنزل بمساعدة قليلة منا لأننا " بنفرهد " بسرعة لما نكنس أو ننشر لكن مابنفرهدش واحنا بنلعب كورة بالساعات أو مبوظين عينينا أدام الزفت الكمبيوتر .
 
أمي بتقول " كنت فاكرة العيال لما يمشوا ويتجوزوا مش هنبقى خايفين عليهم.. أتارينا بقينا نقلق أكتر من الأول واللهِ " .
كل سنة وأنتي طيبة يا حبيبتي.. ربنا يخليكي لينا .

التعليقات