دعاء محمد تكتب: جدتي على موعد مع الحبيب !

عقب كل خسارة، أو فراق، أو خيبة أمل، يقولون: "يومًا ما ستنسي". كبرت وخفق قلبي، ودعوت لهذا القلب ألا يشوهه الفقد؛ فأنا أخافه، وما خشيته حدث مرة وأكثر. ولم أنسى! كنت أظن أنني أحب البكاء كما تخبرني صديقتي، تمازحني بأن طقوس كربلائية تليق بي، لم تدرك أن النسيان ليس قرارًا، أو دعوة ألححت بها كثيرًا ألا يعلق قلبي بما ليس لي، ولم يستجب.

أجلس أمام جدتي أتأمل تجاعيد وجهها، تربت على يدي، ثم تدعو  "يسعدك"، تسألني عن أحوالي، ولما تأخرت عن زيارتها، فأتحجج بمشاغلي، دون أن أصدمها بأنها تراني كل يوم. نصمت لبضع دقائق ثم أحاول إنعاش ذاكرتها، فأختبرها: "من أنا؟"، تجيبني دون تفكير أنها تعرفني لكن لا تذكر اسمي، ولكنها تحبني. هكذا تقول.

تُبكيني، أستعيذ من أرذل العمر. يرعبني التفكير في حالي لو وصلت لسنها، أكن وحدي؟، أم مع أبناء يخصصون لي كوبا وأطباقا، بعدما ترتعش يداي وأنا أتناول وجباتي التي لا أعلم محتواها فيشمئزون مني؟، رغم بلوغها الـ85 عاماً وإصابتها بفقدان الذاكرة، ما زالت تحدثنا عن رغبتها في الصلاة، وعن أول ركعة لها في عمر الأربع سنوات، وكيف علمها شيخها في الكُتاب الوضوء وقصار السور. تستيقظ في الفجر وتتجاهل برودة الجو لتتوضأ وتولي وجهها لمكان ليس القبلة؛ ثم تصلي، وبين الركعات تدعو الله أن يتقبل منها ويقبض روحها، أشاكسها وأوجهها صوب القبلة، فترد:" هو يراني في أي مكان". لم تنس الصلاة؛ فقط لأنها تحب الله.

بعد فراقه بثلاثة وعشرين عاماً، تسأل عنه، تقسم طعامها نصفين، وتصر أن تُبقي له ما يكفيه. يوقظها الحنين في الليل فتطوف منزلنا بحثاً عن جدي؛ عن الحبيب الذي رحل كرهاً وليس طوعاً. تبكي وتستغيث من الغريب الذي يقاسمها سريرها ويحتضنها رغماً عنها، نهدئ ثورتها ونخبرها أنه ابنها، تستسلم للنوم بجواره وتشترط ألا يلمسها، فربما يعود الحبيب "أحمد" ويعنفها. تذكر أنه يحبها ويغار عليها حتى وهي "كومة عظم"؛ لذا لم تنساه.

صادفت من يحسدها على تلك المأساة. بعضهم يقول هنيئاً لها فقد رفع عنها القلم، وآخرون يتمنون لو كانوا مكانها ونسوا ما يؤرقهم، ليتهم يعلمون أنها لم تنس كل ما كانت تحبه. أخشى مصيرها فقلبي لم يعلق بالصلاة في طفولتي، ومن أحببت لم يكن لي، أخاف أن يهن العظم ويشتعل رأسي شيباً وأنا أقص على من أحسبهم غرباء أيام الهوى ، أرتجف من دعوة لن يقبلها الله، فهي تدعو كثيراً أن يرحمها وأن يسعد قلبي؛ وكلتيهما قيد الانتظار.

أعشق تلك الضحكة التي تملأ بها بيتنا حين تداعب بنت أخي؛ تظنها ابنتها وتناديها "وداد"، تتجاوب معها الصغيرة وترد عليها دون أن تصحح لها أو تخبرها أن اسمها "رُفيدة"، تلعبان وتتفقان على الخروج مبكراً والذهاب إلى الحضانة سوياً متجاهلتان فرق الـ81 سنة بينهما.  أعترف أني ورثت منها شغفها بـ"الست"، فقد سمعتها يوماً تدندن مقطع من أغنية "فات الميعاد"  "قول للزمان ارجع يا زمان"، صُعقت وبادرت بسؤالها:" لمن تغنين"، فابتهجت وقالت "ام كلثوم.. سومة، ليها حفلة كل أسبوع في الراديو".. لم تنس من أطربتها يوماً، وأظن أنني أيضاً سأُجلد بذاكرتي مثلها.

 

التعليقات