القديس الصعلوك !.. "عبد الرحمن الخميسي"

اندهش الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين حين عرف أن عبدالرحمن الخميسى وقت وفاته فى 1 إبريل «مثل هذا اليوم» عام 1987 كان عمره 67 عاما فقط «مواليد 13 نوفمبر 1920»: «كنت أشعر أن عمره مائة سنة، لا لشيخوخته، فقد كان أكثر من عرفت شبابا ونشاطا وحركة، ولكن لكثرة ما أنتج، وكثرة ما عاش، وكثرة ما دخل السجن، وكثرة ما سافر فى أنحاء الدنيا، وكثرة ما ترك من أبناء وبنات».. «أحمد بهاء الدين- يوميات الأهرام 4 إبريل 1987».

كانت «الكثرة» فى حياة «الخميسى» هى سر دهشة «بهاء الدين»، ولأنها «الكثرة» بمعناها الكيفى وليس الكمى، تظل عنوانا لمبدع استثنائى مات فى الغربة، بعد أن ترك مصر عام 1974 ليعيش فى الاتحاد السوفيتى كمنفى اختيارى.. استثنائيته دفعت الكاتب الصحفى يوسف الشريف لتخيل أنه بعد دفنه فى المنصورة تنفيذا لوصيته، سينهض قائما يضحك للمعزين، ويصفه فى كتاب «عبدالرحمن الخميسى.. القديس الصعلوك» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»: «شاعرا فحلا، وكاتبا مرموقا، ومترجما أمينا، وقاصا وروائيا، ومؤلفا مسرحيا، وإذاعيا وسينمائيا، وموسيقيا ومذيعا ذا صوت ذهبى، وممثلا، وصاحب مواقف مشهودة فى سجل النضال الوطنى، فضلا عن كونه صعلوكا أشر بالمعنى الجميل فى تراث شعراء الصعاليك العرب إبان العصر الجاهلى، ومزواجا، ومغامرا، ومتلافا، وبوهيميا، وأكولا، ومحدثا، ومهزارا، وسميرا، وظريفا لا يشق له غبار».

قصته من أعجب وأغرب قصص المبدعين فى تاريخ مصر، وبوصف محمود السعدنى: «هو ابن سيبويه المصرى الذى كان يركب حماره بالمقلوب ويطوف فى الأسواق ويهجو الشعراء ويرميهم بأبشع التهم، وهو عبدالله النديم.. وهو بيرم التونسى.. اكتشف سعاد حسنى، ووقف إلى جانب عادل إمام، وأخذ بيد يوسف إدريس وعبدالرحمن شوقى وعشرات آخرين، وهناك عشرات من الأغنيات التى رددها الشعب المصرى فى فترة الثلاثينيات وبداية الأربعينيات «القرن الماضى» من تأليفه، وإن أذيعت بأسماء مؤلفين آخرين.. «مجلة صباح الخير - القاهرة - إبريل 1987».

يربط أحمد هاشم الشريف قصته بقصة مصر فى زمنه، قائلا: «قصة الخميسى هى قصة العاصفة التى هبت من الريف المصرى أيام القصر والاحتلال.. والتى عبر عنها عنوان كتابه «رياح النيران»، ويضيف: «عبقريته هى عبقرية الفلاح المصرى التى نضجت على نار الحرمان والمعاناة، جاء من قريته إلى القاهرة ليضرم النار فى الأدب الرسمى، ومعلقات المديح فى الحكام، ويعلن على الملأ أن «حسن ونعيمة» أهم من «روميو وجوليت»، وكان الأدب الشعبى وقتها محتقرا وممنوعا من الدراسة فى الجامعات، وكانت الكتابة وقتها حكرا على أصحاب الأقلام الذهبية من أبناء الباشوات وحملة الدكتوراه والعائدين من البعثات، ولكن الخميسى القادم من القرية دون أن يكمل تعليمه، كسر هذه القاعدة ومن لا شىء أصبح عظيما، وبدون عائلة مرموقة تسانده انتزع مكانته من أولاد العائلات، ومن الفقر واليتم والتشرد والضياع اعتلى عرش الأدب، كما فعل ملوك القلم الفقراء، وخلال سنوات قليلة أعاد كتابة ألف ليلة، وأصدر دواوين شعر ومجموعات قصص، وترجم لموباسان وتشيخوف، وكتب سيرة المكافحين الذين صعدوا مثله من القاع ولمعوا فى سماء السياسة والفن والأدب، ولم تمض سنوات الأربعينيات إلى أوائل الخمسينيات حتى كان الخميسى بإرادته وحدها نجما لامعا فى سماء الأدب».. «صباح الخير - 16 إبريل 1987».

يرشح الكاتب القاص الدكتور أحمد الخميسى الابن الأكبر لعبدالرحمن، كلمات «الشريف» موجزا لقصة حياة والده بدقة، مشيرا فى مقاله «عبدالرحمن الخميسى.. والدى»، مجلة «العربى - الكويت - إبريل 2012»، إلى انتقال والده من قريته «منية النصر» بالمنصورة إلى القاهرة عام 1936، وكان شابا ريفيا معدما بدون مؤهل علمى، ولا مال، ولا سند، ولا معارف.

يستعين «أحمد» بمقتطف من مذكرات الأب عن لحظة مجيئه إلى القاهرة، وكانت مجلات كالرسالة والثقافة نشرت له قصائد أرسلها دون أن يراه أصحابها: «أنا فى القاهرة بلا أهل ولا دار، ولا أملك شيئا غير إرادة الحياة، ليس فى جيبى مليم، ولكن قلبى غنى بالأحلام، لم تكن لى أسرة ذات جاه، بل لم يكن لى قريب يستطيع أن يعاوننى، أنفقت ليلتى نائما على أريكة فى حديقة عامة».

توجه فى الصباح إلى دار الكتب، وكان الشاعر أحمد رامى رئيسا لقسم الفهارس الأفرنجية فيها.. وتصادف أن تعرف عليه فى البوفيه، وبواسطته استخرج ترخيصا باستعارة الكتب، فى نفس الوقت التقى بمجموعة شباب فى مقهى بباب الخلق.. و«احترفنا كتابة الأغانى للغير عدة سنين حتى نستطيع أن نحصل على القوت الضرورى ليتوافر بعد ذلك أن نطالع وأن نثقف عقولنا»، وفى عام 1938، قدمه الإذاعى محمد فتحى إلى المستمعين من محطة الإذاعة، فأذاع قصائد شعره، وألف تمثيليات وأخرجها، وعمره لا يتجاوز الثامنة عشرة.. ثم التقى بأستاذه الشاعر خليل مطران فمنحه رعايته، واستفاد من مصاحبة سلامة موسى والشاعر إبراهيم ناجى، ويؤكد: «هؤلاء كانوا يبذلون لى من التشجيع ما يشد عزمى.. فى وقت لم تكن تساندنى فيه عائلة قادرة ولا يؤازرنى رزق موصول، ولا يحمينى سقف ممدود».

 

 ( عن اليوم السابع)

التعليقات