حكاية "مذبحة الحوامدية" بعد أذان الفجر.."اللي هيقرب هيحصلهم"

أشارت عقارب الساعة إلى الرابعة والثلث فجر الجمعة، تعلو مكبرات الصوت بالمساجد بالتواشيح والأدعية الدينية، حالة من الهدوء كانت تسود شارع عبدالمنعم سعد بمركز الحوامدية، جنوب محافظة الجيزة، إلا أن أصوات طلقات الرصاص شقت حالة الصمت، معلنة وقوع “مجزرة” أسرية جديدة.

الحكاية بدأت منذ 15 سنة، عندما وقع الخلاف بين والد “أحمد. م”، 24 سنة، وأشقائه بسبب الميراث بعد وفاة والدهم، لكن الأمور كانت تنتهي بتدخل العقلاء من العائلة والجيران، وإقناع المتنازعين على ضرورة الاحتكام للعقل، خاصة أنهم أسرة واحدة.

داخل عقار لا تتجاوز مساحته 90 مترًا، مكون من 3 طوابق، يعيش الأشقاء الثلاثة معًا، حيث تمكث الأم في الطابق الأرضي لتقدمها في العمر، وأبناؤها في الطابقين الثاني والثالث.

بمرور الوقت، تعرضت أسرة والدة الشاب إلى مضايقات من باقي سكان المنزل رقم (8)، فقرر على إثرها رب الأسرة الرحيل، والبحث عن شقة في منطقة أخرى حرصًا على عدم انفراط عِقد العائلة، بعد أن تطورت بعض المشادات إلى مناوشات تارة، وتراشق بالألفاظ تارة أخرى.

وجد الأب ضالته، وبدأ في الانتقال إلى مسكنه الجديد، ليفاجأ باعتراض ابنه الأكبر “أحمد” الذي طالبه بعدم ترك “إرثه” لأشقائه، موضحًا لأبيه أن ما فعلته العائلة كان سعيًا منهم للوصول إلى تلك النتيجة -بتركهم المنزل- لكن الأب أخبره بأنه لا رجعة عن هذه الخطوة، ليقرر “أحمد” المكوث بمفرده واتخاذ منزل والده عشًا للزوجية “مش هسيب البيت ده لحد ما ناخد حقنا”.

على مدار الأعوام الماضية، عاش الشاب في شقة والده الواقعة في الطابق الثاني، وسط إصرار على تحمل مضايقات أشقاء والده حتى يظفر بمبتغاه، إلا أن الأشهر القليلة الماضية شهدت توترًا في العلاقة بين الطرفين لكثرة شكاواهم من سلوكيات الشاب غير المقبولة، لاتهامهم له باستضافته لأصدقائه وشرب المخدرات، غير عابئ بأهل المنزل الذي يضم فتيات في عمر الزواج.

منذ أيام، استمع “أحمد” إلى مكالمة هاتفية -بالصدفة- بين والده وعمه “جمال فرحات”، 50 سنة، يطالبه فيها الأخير بالعودة إلى الإقامة في “بيت العائلة” من جديد “سيبك من ولادك.. بتوع مشاكل”، ليجن جنون صاحب الـ24 سنة بعد سماعه تحريض عمه لوالده.

ممسكًا بسيجارة مشتعلة، ينفث دخانها في غرفته لترسم آماله المبعثرة، ومع تلاشي آثارها، يوسوس الشيطان لـ”أحمد” أنه لا مفر من حل، للحصول على نصيب والده في الميراث، خاصة مع وصول الأمر إلى طريق مسدود، فلا مانع من “العنف”.

“الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم”.. يرفع المؤذن أذان الفجر مناديًا للصلاة، بينما يجلس “أحمد” مع أصدقائه بالقرب من منزله لتعاطي المخدرات وسط غضب أفراد العائلة الذين يترقبون صعوده إلى شقته، لكنه لم يعد يطيق المشادات المستمرة، وقرر إسدال الستار عليها كافة.

مع قرب رفع الأذان الثاني لإقامة الصلاة، يتوافد بعض الأهالي على المسجد الواقع بشارع النهضة، لكن أصوات الرصاص أحدثت دويًا أيقظ الجميع من سباتهم العميق.

تجمع الأهالي لاكتشاف مصدر صوت الطلقات ليشير أحدهم “الصوت جاي من ناحية شارع عبد المنعم سعد اللي على ناصيته الفرن”، يهرع الجميع ليكتشفوا الطامة الكبرى، إذ بـ “أحمد. م”، 24 سنة، يعتلي شرفة منزله المكون من 3 طوابق مهددًا الجميع بإطلاق النار حال اقترابه.

دقائق معدودة احتاجها الأهالي للوقوف على ملابسات الأمر، إذ تبين إطلاق الشاب النار على أفراد أسرته، وعثروا على جثتي الجدة وزوجة عمه غارقتين في بركة من الدماء في الطابق الأرضي لـ”بيت العائلة”.

“اللي هيقرب هخليه يحصلهم” مع تهديدات “أحمد”، لم تنجح محاولات بالأهالي في إقناعه بالتوقف عن إطلاق النار بطريقة عشوائية منعًا لسقوط قتلى جدد، الأمر نفسه رفضه تسليم نفسه للشرطة. وأيقن الأهالي أن الملاذ الأخير الاتصال بشرطة النجدة.

داخل سيارة الشرطة المزودة بأحدث الأجهزة، كان يتفقد النقيب عبد العزيز فرحات، معاون مباحث الحوامدية، الحالة الأمنية في شوارع المركز ضمن خطة الانتشار الأمني ليلًا من خلال الدوريات الأمنية، يتلقى إشارة عبر جهاز اللاسلكي بوجود “مجزرة” وشخص يهدد الأهالي.

انطلقت الدورية صوب محل البلاغ، صراخ وعويل، كر وفر، تصف هذه الكلمات الأوضاع في الشارع الذي لا يتجاوز عرضه المترين، يقف شابً ذو بشرة سمراء مهددًا الجميع. بخطوات حثيثة، اقترب الضابط الشاب من المتهم مطالبًا إياه بتسليم نفسه ووقف حمام الدماء الذي تسبب فيه، لكنه واصل تهديده “ماحدش يقرب مني”.

على مدار نصف ساعة، حاول الضابط إقناع الشاب بالامتثال لأوامره حتى فقد القدرة على مواصلة أفعاله الطائشة “أنا خلاص.. هسلم نفسي ليك يا باشا إنت ابن بلد” وسط صيحات الحاضرين مشيدة بجهود الضابط “باشا مصر.. باشا مصر”، وتمت السيطرة عليه وضُبط بحوزته بندقية خرطوش تركي الصنع عيار 12 مم بداخلها طلقة.

أسرع الأهالي إلى داخل العقار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ونقلوا العم وابنته “منة”، 16 سنة، واثنين من أبناء شقيقته إلى مستشفى، إلا أن الفتاة القاصر لفظت أنفاسها الأخيرة قبل وصولها ليرتفع عدد القتلى إلى 3 أشخاص (الجدة – زوجة العم- وابنتها).

داخل قسم شرطة الحوامدية، جلس العقيد أحمد نجم، مفتش مباحث جنوب الجيزة، يلملم المعلومات وأقوال الشهود حتى توصل لتصور كامل عما حدث داخل ذلك العقار، بدأ بعدها في استجواب المتهم الذي أقر بارتكاب الواقعة بسبب خلافات الميراث.

بصوت متحشرج وعيون اغرورقت بالدموع، بدأ المتهم في الإدلاء باعترافات تفصيلية لجريمته، مؤكدا أنه فتح النار على جدته “سعاد 80 سنة” بمنطقة الرأس، وابنة عمه “منة” بمنطقة البطن، ثم صعد إلى الطابق الثالث، وأطلق النار على أسرة عمه، مما أسفر عن مقتل زوجة عمه “أمل 50 سنة” إثر إصابتها بطلقة في الرأس، وإصابة عمه برش خرطوش بالذراع اليسرى، وابنة عمه “نورا” 18 سنة، برش خرطوش بالبطن، وشقيقها “مروان”، 7 سنوات، بجرح متهتك بالساق اليمنى والذراع اليمنى، وتم نقلهم إلى مستشفى قصر العيني.

بالعودة إلى مسرح الجريمة، انتزعت الحياة من العقار المكون من 3 طوابق، لتسكنه الأشباح، بينما خيم الصمت على شارع النهضة بقرية منى الأمير، وسط ذهول قاطنيه من هول الفاجعة.

أرض لطختها الدماء، حوائط رُشقت بثقوب متباعدة، بقايا زجاج مبعثرة على مدخل المنزل؛ آثار لا تزال شاخصة على تفاصيل “المجزرة” ليشير أحد الجيران بأصبعه نحو العقار قائلا: “ربنا يسامحه.. لا عرف ياخد ورث أبوه ولا سابهم في حالهم”.

التعليقات