أهل الثقة و أهل الكفاءة

منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ نعيش في جدل لا ينتهي حول إشكالية أهل الثقة و أهل العلم و الكفاءة. واستمر معنا هذا الجدل في كل عهد ومع كل نظام حتي يومنا هذا، و كنّا دائما نعلق الفشل علي أهل الثقة و ننسب النجاح (النادر) لأهل الكفاءة و العلم!
جدل غريب وعقيم ولكنه قائم حتى الآن، والسؤال لماذا هذه التفرقة بين أهل الثقة و أهل الكفاءة؟! ألا يمكن أن تجمع أي شخصية بين الثقة و الكفاءة؟ وفي ظني أن النقاش الحقيقي يجب أن يكون حول  تعريف الشخصية ذات الثقة... ثقة في من؟.. ولماذا؟ وهل نقصد بالثقة قدرة الشخص على كتمان الأسرار والانصياع وتنفيذ الأوامر بدون إعتراض؟ أم نقصد ثقة الأمانة ونظافة اليد والذمة؟ هل نقصد الثقة في المسئولين المساعدين والمستشارين النمطيين التقليديين البعيدين عن أي "إفتكاسات" بحيث ترضى عنهم القيادة السياسية والأزهر والكنيسة والشعب والإعلام والأجهزة الرقابية جميعها باعتبار أن هذه الأجهزة جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية؟!
وبمناسبة التعديل الوزاري الجديد تعود المعضلة الأزلية والسؤال الصعب هل الاختيار يتم بمعيار الثقة أم بالكفاءة؟ّ إن أي وزير ذو كفاءة عالية ويحظى بالثقة في آن واحد هو عملة نادرة، فلابد أن نقوم بتجريد هذه الشخصية من كفاءتها وإلغاء معظم صلاحياتها لتصبح فعلاً من أهل الثقة، وعندما تفشل بعد فترة قليلة في أداء مهمتها نقوم باستبدالها بشخصية آخرى بنفس طريقة الإختيار .. والعجيب أننا ننتظر نتائج مختلفة!!
كم من الوزراء جاءوا وذهبوا و تم إتهامهم بالفشل بينما هم لامعون وناجحون في أعمال أخري؟! بل نفاجأ بعد تركهم الوزارة بآراءهم الممتازة و أدوارهم الفعالة و نتسائل لماذا لم ينفذوا هذه الأفكار وهم في الوزارة؟ والإجابة ببساطة أن الوزير حتى يكون وزيراً لابد أن يترك كفاءته وابداعاته الخلاقة على باب الوزارة، لماذا؟ هذا هو السؤال الذي يبحث عن إجابة في مصر منذ أكثر من ٦٠ عاما.
لقد جربنا منذ  ١٩٥٢ هذه الطريقة في إختيار الوزراء ونزعنا عنهم قدرتهم على الابتكار وجمدنا صلاحياتهم .. وكانت النتيجة فشلٌ يتلوه فشل ثم فشل!، فلماذا لا نحاول و لو مرة واحدة تجربة جديدة في إختيار الوزراء، نحن نحتاج وزراء لهم رؤية و فكر، نمدهم بما يحتاجونه من موارد بشرية من إختيارهم لتنفيذ خططهم وتطوير وزاراتهم لإحداث قفزة حقيقية في أداءها، نراقبهم .. نعم ولكن لا نقيدهم ولا نهددهم بالعزل أو بالحبس أو بالنفي خارج البلاد!.
مصر حافلة بكفاءات قوية وعظيمة في جميع المجالات. لماذا لا نستغلها في نهضة حقيقية؟ لماذا لا نثق في الكفاءات وننظر لها دائماً بعين الشك؟ لماذا لا نعطيها الفرصة!، هل وظيفة الأجهزة الرقابية تعطيل المراكب السايرة؟ هل هدف الإعلام العمل على تخلف مصر؟.. هل للقيادة السياسية أهداف أخرى غير تقدم البلاد؟ لا أظن بل بالعكس أري أن أي قيادة في العالم يقاس نجاحها بتقدم الدولة ثقافياً وعسكرياً وسياسيا وإجتماعيا وتعليميا، ومصر ليست مختلفة عن العالم .. ومع ذلك نحن لا نتقدم منذ ٦٠ عاماً !! .. قطعاً "فيه حاجة غلط"، وإصرار عجيب على تكرار نفس الأخطاء والكوارث!.
وبما أننا نتحدث عن الثقة و الكفاءة فهل نحن مرتاحون للثقة المتبادلة بين الشعب والدولة؟ لا أظن. فالشعب و الدولة يلعبان معاً لعبة القط والفأر، ولكنهم تعودوا أن يتعايشوا بهذا الأسلوب. فإذا استطاع الشعب أن يضحك علي الدولة فليفعل وإن إستطاعت الدولة أن تضحك علي الشعب فلتفعل، وهذا الأسلوب لا يؤدي إلى بناء الدول، بل إلى دمارها!
نحن شعب يبني فوق أراضٍ منهوبة ويسرق أدواراً فوق الارتفاعات المسموحة ويرمي بالقمامة علي الطرق ثم يحرقها، ويهرب من دفع الضرائب ويضحك على القانون والمرور ويسيء إستعمال الدعم. والمصيبة لدينا حكومة غير قادرة علي مد جسور الثقة بينها وبين الشعب لأنها حكومات كلام وليست حكومات أعمال، حكومات بدون صلاحيات فعلية. وطول الوقت كانت حكوماتنا رهينة لدولة موظفين كل همهم كيف يتربحون ويستفيدون ويمدون أيديهم في جيب المواطن؛ لأن مرتباتهم الفعلية لا تكفي حتى المواصلات!
آن الأوان للقيادة السياسية أن تقنع الأجهزة الأمنية والرقابية أن طريقتها في إختيار المسؤولين فاشلة، وأن عليهم تجربة طريقة أخري. عليهم تجربة الكفاءة و تمكينها و الصبر عليها. عليهم أن يدركوا أنهم لا يملكون الحقيقة المطلقة لأن هذه الأجهزة نفسها لم تتحرر من النمطية و العادات السيئة و لم تلتزم في أي وقت بالموضوعية في الاختيار بل هي دائماً تلجأ للمظهرية و السطحية. و المطلوب من القيادة السياسية أن تقنع الأجهزة الأمنية بالذات بالتركيز علي الأمن وترك السياسة و الإقتصاد لمن يستطيعون إيجاد حلول سريعة و فعالة لمشاكلنا المزمنة.
يذهب الوزير و يحل محله وكيل وزارة أو رئيس شركة من نفس القطاع و تكون شركته فاشلة من الأساس، ولكنه يحظى بثقة الأجهزة فتكون النتيجة : "هو هو بغبائه"!، ونسمع كثيراً من المسؤولين أنهم لا يستطيعون العثور على عناصر تريد أن تدخل الوزارة ولا نسأل أنفسنا لماذا؟!.

يتم مكافأة الوزير بالملاليم، مقارنة بالقطاع الخاص، والوزير دائماً تحت المراقبة هو وعائلته وكل تحركاته سواء من الإعلام أو من الأجهزة .. "الوزير مش عارف يصلي إزاي .. الوزير بيرقص في حفلة .. الوزير صافح وزيراً إسرائيلياً .. الوزير شوهد في حفلة وهو يشرب الخمر .. زوجة الوزير ترتدي مايوه علي البحر .. زوجة الوزير منقبة.. الوزير عنده جنسية تانية .. إلخ إلخ، وهكذا يصبح الوزير كالسمكة في حوض من الزجاج و بدلاً من أن ينشغل ويركز في عمله ومسؤولياته فإنه يُختطف للرد على هذه الهيافات من إعلام مفلس وأجهزة مريضة!
وبعد أن يشغل الوزير منصبه، وبمجرد أن يجلس على مقعده يفاجئ بأنهم فرضوا عليه طقم معاونين من جواسيس الأجهزة ومن المرتشين والمنافقين والمطبلاتية!، ثم يبدأ العمل بدون خطة وأهداف مشتركة مع الحكومة  فكل وزير يعمل و كأنه في جزيرة وحده.
ثم تقف أمام الوزير جبال من قوانين مجلس الدولة والمناقصات واللجان الرئيسية والفرعية والفنية والقانونية والاستشارية والأمنية.. وكلها تؤدي لنتيجة واحدة .. الفشل التام والموت الزؤام!
ثم يعطل أداء الوزير قضاء عقيم لا يحكم في أي قضية ومصر هي البلد الوحيد في العالم التي يتم فيها تداول القضية في المحاكم لـ 30 و 40 سنة.. بدون أي إندهاش!
لهذه الأسباب لا تقبل الكفاءات الوزارة .. ولا يقبل المبدعون الخلاقون قيود الوزارة في مصر.. واذا أخطأ أحدهم وقبلها .. فإنه عندما يخرج منها يتنفس الصعداء ويلعن اليوم الذي دخل فيه ذلك السجن الحجري في مصر اللي إسمه .. وزارة!!

التعليقات