كان ياما كان !

مع اقتراب العودة للمدارس ، يمكن أن نعتبر أن موسم الصيف انتهى ،، والاسر المصرية التي قضت بعض الوقت في الساحل او الاسكندرية او العين السخنه تستعد لأن تقول للاجازات وداعاً . 
و هذا هو التوقيت الذي نسمع فيه عادة  في المناسبات الاجتماعية عن مغامرات الشباب  في الساحل وشكاوى اهاليهم من ارتفاع الأسعار و سهر الابناء حتي الفجر يوميا و.. " العيال بيصرفوا الف جنيه في اليوم .. والواد عمل حادثة بالعربية ، وفلان عمل حفلة جامده في فيللته وجاب فور سيزونز وفور كاتس ، والتاني استأجر فيلا ب١٠٠ الف جنيه عشان يقعد فيها كام يوم " !! .  حكايات اسطورية وصوراً للتباهي والفشخرة كنا لانسمعها ولانعرفها ونحن أطفال أو شباب في الستينات و السبعينات و حتي الثمانينات مع اننا كنّا نصيف في أماكن رائعة .. المنتزة و شاطئ عايدة وغيرها من شواطئ الاسكندرية التي تحتفظ الذاكرة بأجمل ذكريات أيامها ولياليها الصافية ، وكل من ذهب لمصايف زمان وذاق طعم البراءة والمرح على شواطئها يشاركني الوحشة لهذا الزمن الجميل .

في المنتزة ، كنا نقابل أصدقاء لا نراهم الا كل صيف ، نلتقي وكأننا لم نفترق طول العام ، وكل صباح يكون اللقاء علي الشاطئ ، لعب الراكيت يستهلك معظم النهار وبين اللعب والحر والاجهاد ، ننزل "ناخد غطس" في البحر ، وبين الامواج المتلاطمة كنا نلتقي بأصدقاء آخرين نتجاذب معهم الاحاديث ونتشارك في الذكريات ، و فجأة ترسل الأمهات الرسائل .. الغداء جاهز..  الساعة الثانية و النصف ، في نفس الموعد كل يوم  ، والكبار يكونوا قد استهلوا بأكواب البيرة " المشبرة" ومزات خفيفة ، سوداني  و خيار و جبنة بالطماطم و ريتسا و جندوفلي ، قبل ان نهجم نحن ونلتهم الغداء لنعود سريعا الي الشاطئ لاستكمال اللعب و السباحة . وكانت قمة السعادة عندما كان أهالينا يسمحون لنا باستئجار " البيريسوار" لساعة أو نصف ساعة ، قارب خشبي صغير من صنع نجار عادي و مطلي بألوان زاهية ، يركب فيه  شخص أو إثنان ، نقدف مجاديفه الخشبية في الماء ونتحدى به الامواج والعالم .. . و كانت هذه هي قمة السعادة في هذا الزمان .
ساعة الغروب ، وبعد الشاي وفاكهة الاسكندرية الشهيرة التين والعنب والمانجو ، يتجمع الشباب في مجموعات للتمشية على طول  كبائن المنتزة ، وفي الطريق نجد الحاوي يمارس العابه امام احدى الكبائن ، نتوقف للفرجة  ونحاول اكتشاف الخدع .. نَصِيْح : شوفتك حطيت الكتكوت في إيدك الثانية ، و يغضب الحاوي صائحا : "ارجع اكابينتك منك له ".

كل اسبوع كنا نذهب مرة الي السينما ، و كانت سينما صيفي مفتوحة ، و بعد السينما نتوجهالي جليم لتناول الأيس كريم الاسكندراني الشهير وفطير "الأمور".

ثلاثة شهور تقريبا ، نفس الاجندة اليومية ، متعة وبراءة من الصباح الى المساء بدون كلل ولا ملل ، نستيقظ صباحا ونخمن ياتري لون العلم على الشاطئ النهارده ،.. اسود ام ابيض؟.. وحتى اذا لم يكن البحر اليوم يسمح بالسباحة ، فالجلسة على الرمال وتأمل البحر ، وشراء الصحف والفريسكا والسوداني والريتسا وأيس كريم جروبي من الباعة المارين عليك طول الوقت  كان يكفي لنستمتع بالوقت ، وخصوصا عندما تهل علينا السيدة الضخمة التي تقرأ البخت و كان يعرفها كل رواد المنتزه ، وكانت تنادي بفرنسية ركيكة " فولي فوو فوار فوتر شانس " ،.. كنا نضحك من قلوبنا ونحن نمد لها ايادينا لتقرأ لنا الكف .

عندما كبرنا قليلا وأصبحنا في سن المراهقة ، كنا  نذهب للرقص يوم الجمعة في حديقة فندق فلسطين علي موسيقى فرقة  " les petits chats" و أحيانا "black coats" ، نلتقي بفتيات في سننا و بدأنا نعيش قصص حب المراهقة ، تتشابك الايدي ، ونسرق القبلات خلسة ، و كان يسمح لنا بالجلوس في كازينو عايدة خلف الكبائن ، نشرب كوباً من البيرة وننتظر البنات . كنّا نعيش مراهقتنا بصورة طبيعية بدون انحراف او تشدد او تطرف ، شباب يعيش سنة  في العلن وفي مناخ صحي بدون عقد او خوف ولا رعب ممن اعطوا لانفسهم توكيل الحلال والحرام .

كانت أيام بسيطة و جميلة. وأحلي ذكرياتي عشتها في صيف الاسكندية ، و أجمل صداقات كانت صداقات المنتزة ، كنا نستمتع بدون ان  نسهر حتي ٥ صباحا ، وكنا نقضى اوقاتا رائعة بدون ان ننفق الف جنيه في اليوم ،،ولم نكن نحتاج الي الجيت سكي أواليخوت ،  و لم نكن نستيقظ عصراً ، كنا نفطر مبكرا ونجتمع حول مائدة واحدة مع اهالينا ساعة الغذاء ، لم نعرف الشيشة ولا البانجو والحشيش والترامادول ، لم نعذب اهالينا ونرهقهم بموضات السفر لاسبانيا والكاريبي ، عشنا معهم واستمتعنا بالصيف وبالاجازة و بدفء الاسرة وبصحبة اصدقاء الطفولة ، حلمنا بتغيير العالم ، وبوطن جميل . وعندما كبرنا وذهبت ايام المنتزه ، ذهب الصيف وذهبت السعادة  وتبخرت الاحلام ، الدنيا تغيرت والناس لم تعد هي الناس ، والوطن لم يعد هو الذي عشناه ولا اصبح هو الذي حلمنا به . 

التعليقات