الخارجة

بدأ «أحمد أمين» حياته العملية قاضياً شرعياً، وتسلم عمله فى «واحة الخارجة»، حيث قضى بها ثلاثة شهور، كان ذلك فى عام 1913، أى قبل قيام الحرب العالمية الأولى بعام، كانت الإدارة المصرية تقوم على أن الموظف لا يبدأ حياته العملية فى المحافظة أو المديرية التى وُلد وعاش بها، ربما حرصاً على أن تخرج الإدارة عن النطاق العائلى والقرابة والعشائرية، منعاً لأى تأثر أو انحياز فى أداء العمل، وربما حرصاً على التشبع بالروح الوطنية، وعدم التوقف عند حيز جغرافى واجتماعى ضيق ومحدود، وربما تدعيماً للمناطق النائية بعناصر تمثل نماذج جديدة، تتيح مزيداً من التمازج والتمدين الإنسانى والاجتماعى.

يحكى «أحمد أمين»، فى سيرته المتميزة «حياتى»، كيف انتابت المحيطين به حالة من الوجوم والقلق لمجرد أنه سوف يذهب إلى منطقة نائية، هو وُلد وتربى فى القاهرة الإسلامية، ولم يكن غادرها من قبل، وعاش بين أهله، وسط أفراد أسرته، وفجأة، بعد أن أنهى دراسته وتخرج، كان عليه أن يسافر بعيداً، فى منطقة شبه مجهولة له وللجميع، وأن يعيش وحيداً، ورغم ذلك لم يفكر هو ولا أحد من أقاربه أن يسعى إلى التمارض تهرباً، أو الادعاء بمرض الوالد والوالدة، وسوء الظروف الأسرية، ثم السعى لدى أحد المسؤولين لتعديل مكان العمل، ويكون فى منطقته وحيه، ناهيك عن أن يكون إلى جوار البيت!!، يتحدث كذلك عن المعاناة التى لقيها حتى وصل إلى الخارجة، من القاهرة إلى أسيوط، ثم سبع ساعات فى القطار من أسيوط إلى هناك، اليوم تقطعها السيارة فى ساعتين تقريباً، فضلاً عن أن المدينة بها «مطار» ورحلات طيران متواصلة.

معاناة السفر لم تؤثر عليه، ذهب بنفس راضية وعقل متفتح، يدرك أنه أمام مرحلة أخرى من العمر وتجربة جديدة، يريد أن يخوضها بجدية وأمانة، واكتساب المعرفة والخبرة، وقد فعل.

وما إن وصل إلى الخارجة وأقام بها، حتى شعر بالأسى الحقيقى، فقد اكتشف وجود مواطن إنجليزى يعيش هناك منذ فترة، إقامته دائمة، ولم يكن ضجِراً ولا شعر بغبن، بل كان سعيداً ومتعايشاً مع الأهالى فى حالة من الانسجام والوئام، وكان مهتماً بجمع نبات معين، يجمعه الأهالى له، فى مقابل زهيد، ثم يرسله إلى لندن ليتحول إلى مواد طبية تدر عليه دخلاً كبيراً.

الآن نعرف أنه منذ القرن السابع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فى مناطقنا الصحراوية، خاصة الحدودية منها، كان يقيم بكل منها عدد من الأوروبيين، فى الصحراء الغربية، وفى سيناء والبحر الأحمر، وفى الصحارى العربية كلها، بينهم الرحال والمغامر والباحث والدارس، وبينهم مَن لم يكن برىء الغرض والهدف، فيهم مَن أفاد الباحثين وأضاف إلى معارفنا الكثير، وفيهم مَن اتخذ الموضوع مشروعاً استثمارياً ومالياً، مثل حالة ذلك الإنجليزى الذى رآه «أحمد أمين» فى «الخارجة»، وفيهم مَن تآمر علينا، والواقع أنهم لم يكونوا فى المناطق الصحراوية فقط، بل كانوا فى المدن أيضاً، ويستحق هذا الأمر باحثاً متخصصاً، أو فريقا بحثيا، يعكف أفراده عليه ويدرسونه.

كان الأسى أن «أحمد أمين» رأى ذلك «الأوروبى»، الذى ترك بلاده والحياة الناعمة فى لندن وجاء ليعيش فى بيئة صحراوية قاحلة بالمعنى الكامل، بينما يأنف بعضنا من مجرد السفر إليها، ومَن يضطر إلى السفر يعد نفسه معاقَباً، وأنه ذهب لمدة عابرة ومؤقتة، يحسبها بالساعات وليس بالأيام. مصدر آخر للأسى، لدى صاحب «فجر الإسلام» وضحاه وظهره، أننا لا ننتبه إلى قيمة الثروات التى يمكن أن تكون لدينا، ولا نقوم بالاستفادة الكاملة منها، بينما يكتشفها الآخرون ويقومون بتوظيفها والاستفادة منها.

رحلة «أحمد أمين» إلى الخارجة مضى عليها أكثر من قرن، وجرت فى النهر مياه كثيرة، ففى نهاية الخمسينيات، وبعد رحيله عن عالمنا، تأسست محافظة «الوادى الجديد»، لتكون مشروعاً للتنمية والعمران، يمثل خروجاً من الوادى القديم، أى وادى النيل، إلى الصحراء، وجعلها وادياً جديداً، ثم جمد الاهتمام بالوادى الجديد، والآن، هناك اهتمام كبير بهذه المنطقة، وثمة مشروعات يجرى التأسيس لها، لرفع الأسى الذى استشعره الكاتب والباحث العظيم سنة 1913.

 

نقلا عن المصري اليوم

التعليقات