دكتوراه في "جلد الذات"

يبدو أن الاكتئاب والاحباط واليأس أصبحوا موضة في مصر. لم يعد أحد يتكلم أو يكتب إلا عن السلبيات والسواد والفشل، ولا يتخيل هؤلاء حجم الضرر والتشويه الذي يورثوه في نفوس أبناءهم وللأجيال القادمة.
وإذا كان جيلنا والجيل الأكبر منا يكره نفسه ويكره فشله ويغرق في إحباطاته وأحلامه الضائعة، فما ذنب أبناءنا الذين تسد عليهم كآبتنا أبواب الأمل وتعمي عيونهم عن رؤية النور وسط عتمة أيامنا؟!
إن الحقيقة التي لا يريد أن يراها مدمنو التشاؤم في بلادنا أن المصريين الذين يعملون ويكدحون خارج الوطن يعيشون في ظروف بالغة القسوة بالمقارنة بما نعيشه نحن ونكفر به في بلادنا..
في الغربة .. اللقمة بحساب، ومشوار السيارة بحساب والفسحة بحساب، وتعليم الأولاد بحساب، الكل يذوق المر في صمت، والذي يجبر على ترك عمله يدوخ السبع دوخات حتى يجد بديلاً، ويدفع ثمن التمييز والعنصرية "المقننة"، يبتلع ثمن الغربة، ويحترم القانون صاغراً، حتى لو كان جائراً، ولا يجرؤ على الشكوى!
وعلى الجانب الآخر، العيشة في مصر ليست في الحقيقة بكل هذا القبح والسواد،.. الناس تأكل وتشرب وتذهب إلى المصيف وتدخل أولادها المدارس، وبالطبع .. ليس الجميع سعداء، وليس الجميع سواسية، وليس الجميع راضين بأحوالهم، نعم.. نحن نعيش في بلد فقير ولكن إمكانياته في أولاده، ومستقبله في شبابه، الفاشل منهم يقع والعبقري ينطلق، وكل المطلوب هو أن نترك فيهم بعض الأمل، وأن نشجع فيهم القدرة على العطاء.. نترك الشباب ينتج ويعطي ويزرع في بلده بدلاً من الزرع والشقاء في بلاد غريبة!،.. كل ما أرجوه فقط.. ان تتركوهم، .. لا تكئبوهم..، وإذا لم يكن بأيدي جيلكم جيل العجائز المتشائمين شيئاً تقدموه لهم، أرجوكم توقفوا فقط عن العويل والبكاء على الأطلال، إتركوهم.. وأصمتوا!
إن مأساتنا يا سادة،.. أننا أصبحنا كلنا أساتذة في لطم الخدود والشكوى بلا حدود، كلنا نحمل "شهادات دكتوراه في جلد الذات"، لا نجيد إلا النقد والذم والهدم، والمقارنة مع الدول المتقدمة، نهاجم بضراوة ونعجز عن تقديم الحلول، نستورد تجارب دول أخرى سبقتنا بأميال ونريد أن نطبقها في بلادنا، .. نستدعي تجارب شعوب تعبت وضحت ودفعت ثمن تقدمها، شعوب لم تقبل بتخلفها ورفضت واقعها، فاشتغلت وتعبت وغيرت، وليست شعوباً تصحو من النوم لتنقد وتمقت وتكره فقط.. وتقول مفيش فايدة!!، شعوب لا تتلذذ بالتريقة على نفسها ومسخرة تاريخها وحاضرها والشك في مستقبلها.
يا سادة .. الشعوب الحية الناهضة تروي لأبناءها قصص النجاح لتضئ دروبهم وتقودهم للمجد،.. أما الشعوب الميتة الفاشلة، فهي لا تترك لهم سوى الأطلال والبكاء على المجد الغابر والشماتة في الحاضر والشك في المستقبل!
* نائب برلماني ودكتوراه في العلوم السياسية

التعليقات