هى العصافير متوحّشة؟

فيلمٌ قديم لم أره من قبل، عنوانه: (شَيّلنى وأشيّلك). بطولة محمد عوض ونسرين. صادفته بالأمس ولفت نظرى لأن البطل «محمد عوض» كان يؤدى دور رجل اسمه «علاء» اكتمل نمّوه الجسمانيّ، ولم يكتمل نضوجُه العقلى، فكان كائنًا بجسم رجل، وعقل طفل. وحين أقول «عقل طفل»، فإنما أعنى أن عقله متجاوزٌ الأطُر الضيّقة التى تتحرّك فيها عقولُنا الناضجة. فالطفل، كما نعلم، ينظر (فى) عمق الأشياء، ولا ينظر، مثلنا، إلى الأشياء تلك النظرة السطحية العابرة التى لا تخترق قلبَ الأمور.

نحن- الناضجين- نكتسب فى رحلة حياتنا، مع السنوات، أمرين: العلمَ، والخبرة. «العلمُ» نُحصّله من المدارس (التعسة فى مجتمعاتنا العربية) وفقط، وبعضنا، ممن رحم ربى، يحصّل علومه ومعارفه من قراءاته وتأملاته فى أفكار المفكرين والفلاسفة والعلماء، وأولئك يكسرون الصندوق غالبًا ويتحرّرون من السلاسل الصدئة التى تُعوّق عقولَنا، بفعل المناهج النقلية البلهاء التى تكرّسها وزاراتُ التعليم المتعاقبة لننشأ بأمخاخ ضحلة تسبح فى بحار العنصرية والأنامالية والرجعية والشكلانية الناقلة غير العاقلة.

وأما «الخبرةُ»، فنكتسبها مع تراكم الخبرات والتجارب التى إما تمرّ علينا مرور الكرام، كما تمرُّ قطرةُ ماء على سطح زلق، فلا كأنها مرّت، أو تمرُّ مرورَ الحفر العميق، كما يحفر شعاعٌ من الليزر سطحَ أسطوانة مدمجة، فيملأ مسامَّها بالنغم والشدو.

أما الطفلُ فهو أكثر حريةً وتحرّرًا ووعيًا من الكبار لأنه غير مُكبّل بأصفاد المنطق والعلم والشكليات والأعراف الشكلانية التى تُحجِّم انطلاق الفكر نحو سماوات أرحب وأكثر صفاءً وشساعة.

لهذا لا تجد الطفل عنصريًّا، إلا بعدما تحقنه بمادة العنصرية السامة.

ولا تجد الطفل قاسيًا، إلا بعدما يشاهدنا نحن- الكبار- نقسو على الأضعف، ولا تجد الطفلَ يخافُ أن يسأل، إلا بعدما ينال أولَ صفعة بعد أولِ سؤال يخطر بباله من تلك الأسئلة التى نعتبرها متجاوزة أو «حرام» أو «عيب» أو خارج الصندوق.

لهذا كان الدكتور طه حسين يعلّمنا أن نقرأ قراءة الأحرار لا قراءة العبيد.

الأولى بحثٌ عن الحقيقة، والثانية الهجوم على الفكرة إذا خالفت الموروث.

نسرين تقوم فى الفيلم بدور المعلّمة النفسية التى تحاول أن تأخذ بيد الرجل/ الطفل ليتعرّف على العالم وعلى الأشياء. بعدما جاءته بصور ملونة للحيوانات والطيور والزواحف، ليتدرب على نطق أسمائها: أسد- دب- فهد- تمساح- عصفور... إلخ، اصطحبته إلى حديقة الحيوان، ليعاين بعينيه شخصيًّا ما شاهده صورًا على صفحات الأوراق الملونة.

عرّفته على الدُّب القطبى، والنمر، والأسد، والثعابين.

فسألها ببراءة طفلٍ: هى الحيوانات ليه فى قفص؟ أجابته المُعلّمة: لأنها حيوانات متوحشة، ممكن تؤذينا.

ثم أكملا تجوالهما فى الحديقة، حتى توقّف جوار قفص كبير فهتف فى فرح: عصااافير!» وبعد برهة من تأمله تلك العصافير الملوّنة المبهجة، وإنصاته لأصوات زقزقتها العذبة، أشار بإصبعه إلى قضبان القفص الحديدية، وسأل معلّمته فى دهشة وريبة واستنكار: «هى العصافير كمان متوحشة وممكن تؤذينا؟»، هنا، بُهتت المعلمةُ، وقد صعقها السؤال المنطقيّ، الطفولى، الناضج، ولم تدر بمَ ترد على ذلك السؤال الُمحيّر!

وأنا بدورى أنقل السؤال السهل/ الصعبَ ذاتَه إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وإلى المُشرّعين، وإلى البرلمان، وإلى المحكمة الدستورية العليا، وإلى رجال القضاء والفقهاء الدستوريين ورجال القانون: هل العصافير متوحشة وتؤذى؟!

لماذا تصمتون عن قوانين تضعُ العصافير فى الأقفاص، وهى لا تؤذى ولا تنهش ولا تقتل، وتغضّون الطرف عن ثغرات فى القوانين تجعل الضوارى الناهشةَ حُرّة طليقة، تعيثُ فى الأرض وفى العالمين فسادًا وتخريبًا وتمزيقًا وإتلافًا؟!

فى الأخير، أتذكّر الإسكندر الأكبر الذى كان يحلُم بتكوين الأسرة البشرية الواحدة.

فسأل أستاذَه الفيلسوفَ الإغريقى أرسطو: أستاذى عمّن أسأل أولا، إذا ما فتحتُ مدينة؟ قال أرسطو: ابحثْ عن قوّتها الناعمة- شعرائها ومثقفيها وفنانيها.

أولئك- يا سيدى الرئيس- مَن تضعونهم فى الأقفاص.

نقلا عن المصري اليوم

التعليقات