روابط تعطيل الإصلاحات والمليارات المنهوبة

وعدت بكشف نماذج من أصحاب المصالح الذين يعطلون إصلاحات مهمة للمجتمع، دفاعا عن مصالحهم، وبدعوى أنهم يدافعون عن مصالح الشعب. واليوم، أسوق بعض الأمثلة لحالات عايشتها فى الوزارة، عجزت فيها الحكومة عن تحقيق رؤيتها أو تنفيذ قرارها، لأن فئة محدودة ذات مصلحة ضيقة وقفت موقف المعارضة ونجحت بأساليب مختلفة فى حشد ما اعتاد الإعلام أن يسميه «رأياً عاماً». قد تنطوى الأزمة أو حدوث مشكلة عامة على فساد شخص أو مجموعة من الأفراد عديمى الضمير ناقصى القيم أو محدودى الكفاءة، لكن قناعتى والتفسير الأكثر موضوعية واستخدام منهج الاقتصاد السياسى يدعونا إلى البحث عن الفئة صاحبة المصلحة والمتحالفين معها خارج الحكومة أو المتربحين من وراء مسؤوليتهم عن تطبيق اللوائح وإنفاذ الإجراءات داخل دواوين الحكومة.

■ إنهم يذبحون الطيور. عندما ظهرت مشكلة أنفلونزا الطيور وكادت تتحول إلى وباء متوطن فى مصر وضح أن أحد الأسباب الرئيسية التى ستفاقم الوضع هو نقل الطيور الحية من مزارع الدواجن إلى الرياشات (وهى محال بيع وذبح الطيور) المنتشرة فى المدن وحتى الأحياء الراقية. فكرت الحكومة فى ضرب عصفورين بحجر: أن تحاصر مصدراً أساسياً لانتشار العدوى، وأن تبدأ برنامجاً لتطوير صناعة الدواجن. قام البرنامج على أساس الاستثمار وتوفير فرص عمل فى اتجاهين: إنشاء عدد من المجازر المتطورة فى مناطق قريبة من تجمع المزارع، إلى جانب تغيير ترخيص الرياشات لتصبح «سوبر ماركات» متعددة الأغراض وتشتمل على مبردات للطيور المذبوحة. وبينما كُلِّفَت الوزارات المعنية بدراسة وتدبير التمويل، إذا بمظاهرة غير مسبوقة - آنذاك - أمام مبنى مجلس الوزراء (ومجلس الشعب) تضم تجار الطيور معترضين على قطع أرزاقهم. خلال أيام، أصبحت الحكومة محل اتهام واسع. وترضية للرأى العام الغاضب!! نفضت الحكومة يدها من الموضوع وبقى الحال على ما هو عليه.

■ نحن أصحاب الزبالة. لا يصدق أحد أننا عاجزون عن أن تكون شوارع الأحياء الغنية قبل الشعبية نظيفة وخالية من القمامة رغم طول الحديث عن هذه الظاهرة المقيتة وتكرار الجهود للعمل على إنهائها أو وضع حد لها. كان أحد الحلول هو أن يُوكَل لشركات أجنبية (إحداها تتولى نظافة مدينة باريس) جمع القمامة والنظافة فى عدد من المحافظات. دبت منذ بداية عمل الشركات خلافات شديدة معقدة بينها وبين أجهزة الإدارة المحلية، وعندما ألغيت العقود مع الشركات تحملت المحافظات وميزانية الدولة تعويضات مرتفعة. تقدمت وزارة البيئة باستراتيجية شاملة للتعامل مع هذه المعضلة المستعصية، وتضمنت لوجيستيات ومتطلبات جمع ومواقع تجميع وفرز ونقل ومصانع تدوير والتخلص من المخلفات.. وهكذا. كانت الاستثمارات المطلوبة مرتفعة، لكن العقبة الأساسية لم تكن التمويل وإنما تحديد الجهة التى ستتولى الخطوة الأولى: الجمع من المنازل، والتى اعتاد الزبال التقليدى أن يقوم بها مع زميله بعربته الخشبية ويجرها حمار!! خلفية المشهد كانت تشى بمقاومة لتطوير المنظومة، وهناك من يرى أن الزبالة حقه.

■ أين جزرة القطار؟ عندما وقع الحادث الأليم واحترق قطار الصعيد كثرت التفسيرات لأسباب الحادث المشؤوم، وتركز معظمها فى سوء الصيانة وعدم توافر قطع الغيار (مثل جزرة الفرامل التى تسببت فى عدم إيقاف القطار) بسبب قلة الموارد المتاحة لهيئة السكك الحديدية. كلفت فريق عمل وشاركت بنفسى فى دراسة ومراجعة الاعتمادات التى تتاح لوزارة النقل بكل أجهزتها. أموال طائلة تخصص سنويا- وما زالت- لبرامج ومشروعات هذه الهيئة مثل: كهربة الخطوط والسيمافورات، تغيير وصيانة القضبان، تطوير المزلقانات، تطوير عربات الركاب، تطوير المحطات، تطوير الورش وتوفير الجرارات (لا تستغرب عزيزى القارئ أنى أحفظ بنود قوائم الاستثمار فى المجالات المختلفة). بينت المراجعة أشكالاً متعددة لإهدار الموارد، من بينها ضعف مراقبة المخازن والورش. (على غرار مشكلة توريد القمح). هل تطور أى من المجالات المذكورة رغم اقتطاع أموال تحتاجها أيضاً قطاعات أخرى؟ اسألوا من سرق الجزرة.

■ لماذا يسرقون لافتات الطرق؟ الحال التى وصلت إليها الطرق السريعة أو داخل المدن (قبل تولى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الإشراف على المشروع القومى للطرق) غير مقبولة، خاصة فى ضوء ما يخصص لها من اعتمادات. لاحظت فى إحدى السنوات تكرار رصد موارد غير فليلة للهيئة العامة للطرق تحت بند «لافتات إرشادات الطرق». كانت الإجابة عن استفسارى، أنه كلما تولى العاملون تركيب لافتات قام بعض الأشقياء بنزعها!! أياً كانت صحة الأمر، ما أود التأكيد عليه فى هذه الحالة هو تكلفة اختلاط مهام التخطيط مع التنفيذ والمتابعة لدى جهة واحدة. فالهيئة العامة للطرق تتبع وزارة النقل التى تضع بالتنسيق مع وزارة التخطيط السياسات والاتفاق على الاعتمادات المتاحة لها.. لكن الهيئة توكل مشروعاتها بصفة أساسية إلى شركة النيل للطرق، التى هى فى النهاية شركة عامة تتبع الهيئة. هذه العلاقة - مثل غيرها فى كثير من المجالات- لا تضمن الكفاءة والنزاهة. أصبح الوضع يستوجب تعديلاً مؤسسياً، بحيث لا تتبع شركات أو جهات تنفيذية الوزارات النوعية. فتتولى مثلا شركة تشغيل وإدارة المترو استقلالاً عن هيئة الأنفاق، وأن تخرج شركة النيل للطرق من عباءة الدولة وتدخل فى منافسة متكافئة مع غيرها من الشركات للحصول على حجم أعمال يناسبها. من المسؤول عن عشوائية خدمة النقل فى المدن الكبرى والعاصمة؟ من سمح بتوسع وتغول الباصات الصغيرة ومن بعدها التوك توك؟

■ ألف مدرسة... وإلّا؟.. سنظل نتكلم عن أهمية تطوير التعليم وتخصيص الاعتمادات المالية الكافية، والمزايدة فى تقدير أرقام هائلة، دون التدقيق فى عناصر استراتيجية التطوير المنشود. نسمع فى كل مرة عن رفع كفاءة المعلم، تطوير المناهج، بناء مدارس. فى الواقع العملى، يختزل المشروع القومى لتطوير التعليم فى مطالب فئوية ظاهرة أو باطنة. عندما كان أحد الأهداف الإنمائية (للأمم المتحدة) تحقيق الاستيعاب الكامل لكل من هم فى سن الالتحاق خصصت الحكومة المصرية الموارد لبناء حوالى ألف مدرسة سنوياً، وأنشأت الهيئة العامة للأبنية التعليمية لتحقيق الهدف. سجلت التقارير الدولية والمصرية تحقيق الاستيعاب الكامل تقريباً ومن ثم تم تقدير الاحتياج إلى حوالى 500 مدرسة فقط لمواجهة حالات التكدس فى الفصول وعدم وجود مدرسة قريبة فى بعض القرى. خُفِضَت الاعتمادات المخصصة لهيئة الأبنية التعليمية. قامت الدنيا ولم تقعد. ورغم تفهم مجلس الوزراء للتقديرات المعدلة أثار لوبى التعليم فى مجلس الشعب ضجة هائلة (يجرى مثلها الآن للمطالبة ببناء 150 ألف فصل). بهذه الأموال أصبحت الهيئة من أكبر المقاولين، ويملك بعض مهندسيها شركات مقاولات تعمل من الباطن. حدثت ضجة مماثلة عندما ناقش مجلس الشورى الملغى قانون الكادر الخاص باللمعلمين. اعترضت نقابتهم على الربط بين رفع الرواتب والالتزام بعدم إعطاء دروس خصوصية. زيدت الرواتب وبقيت الدروس.

■ نحن أولى بعلاجهم. نعرف جميعاً أن أكثر ما يرهق ميزانية المصريين من محدودى الدخل والطبقة المتوسطة على حد سواء تكلفة العلاج. لا حل سوى نظام جيد للتأمين الصحى. جرت دراسات موسعة، تبين منها ضرورة توافر شروط أساسية، مثل أن يشترك فى النظام كل المصريين (تتحمل الموازنة العامة اشتراكات الفقراء)، وأن تشارك كل المؤسسات الصحية العامة والخاصة بدرجات مختلفة فى تقديم الخدمة الصحية. اعترضت الهيئة العامة للتأمين الصحى، وقاوم كبار الأطباء فى الجامعات ومن ذوى العيادات والمستشفيات الخاصة. وسقط النظام المقترح.

هذه أمثلة محدودة، يساعد تأملها على معرفة من هو صاحب المصلحة الحقيقى فى الضغط لمنع تنفيذ قرار أو السير فى اتجاهٍ ليس بالضرورة هو الأسلم.

حمى الله مصر.

وزير التخطيط الأسبق

نقلا عن المصري اليوم.

التعليقات