كلام إلى الضمير العام

من المؤكد تطويق الأزمة المصريةــ السعودية ووقف تداعياتها السلبية فى مدى منظور، فلا مصلحة لأى من البلدين فى أى جفوة أو تشاحن.

غير أن ما كشفته من فجوات واسعة فى مستوى التفاهمات الاستراتيجية، ينذر بإعادة إنتاج الأزمة مرة بعد أخرى إذا لم تجر مراجعة حقيقية للأسباب التى أدت إليها.

أول اعتراف ضرورى أنه لا يوجد تحالف يمكن وصفه بأنه «استراتيجى»، فالخلافات فى الملفات الإقليمية أوضح من أن تنكر، وأفضل خيار ممكن المصارحة بالحقائق لا نفى ما هو مكتوم من أزمات.

وثانى اعتراف ضرورى أنه لا يوجد تقريبا أى حوار له صفة الجدية والدوام فى أى ملف إقليمى، ولا سعى يعرف أهدافه ومقاصده لبناء أرضية مشتركة توفر للعالم العربى فرصة تماسك يحتاجها أمام أخطار محدقة، قد تقسم فيها خرائط القوة والنفوذ من جديد بعد الحرب على «داعش».

وثالث اعتراف ضرورى أن الحساسيات المتبادلة وصلت إلى حد يصعب إنكاره، وقد عبرت عن نفسها بصورة منفلتة على شاشات فضائيات وشبكات تواصل اجتماعى.

أسوأ ما فى الأزمة التنابز بالأوطان والطعن فى الشعوب.

بصورة أو أخرى يمكن تجاوز أى حواجز سياسية مباشرة، فيما لا يمكن مثل هذا التجاوز بالسهولة نفسها فيما خلفته انفلاتات الأعصاب والألفاظ.

فى التنابز بالأوطان لعب بالنار، والآثار تلقى بظلال كثيفة على مستقبل العالم العربى المهدد فى مصالح شعوبه وخرائط دوله.

هناك من يتصور أن قدح شعب آخر يعلى من شأنه هو، وهذه رؤية ساذجة.

وهناك من يتصور أن مثل هذا القدح يضفى على موقفه شرعية ما، وهذه سذاجة أخرى.

لا يمكن أن تتأسس مكانة على تجاوز أخلاقى، ولا شرعية على قدح مفرط.

لغة الشتم تعبير عن قلة حيلة لا قوة حجة.

القضية ليست فى الاختلاف بين أى دولتين، بقدر ما هى أن تكون المعلومات الأساسية متوافرة قبل إبداء الرأى، حتى تكون الحجج متماسكة.

شىء من الجهل بدا واضحا فى لغة الشتم والسباب التى سادت شبكات التواصل الاجتماعى بقوانين الفعل ورد الفعل.

قد ينسب التجاوز على بعض الفضائيات بالكلام المنفلت من أى قيد أخلاقى إلى ظاهرة زهور «عباد الشمس» فى الإعلام العربى، حيث تميل وفق حركة الضوء.

إذا تأزمت العلاقات فإنها مؤامرة أو نكران جميل، وإذا انفرجت فإنها الحكمة والعلاقات الوطيدة.

هذا كلام لا يليق ويسحب من رصيد أى احترام وكل مستقبل.

إذا لم تكن هناك رؤى معروفة فكل شىء فى مهب التأويلات.

المصارحة بالحقائق ما نحتاجه بالضبط للإبقاء على ما هو ممكن من تماسك عربى عند حده الأدنى، وتجنب أى سيناريوهات أخرى تأخذ فى طريقها كل ما تبقى من أطلال.

ليست هناك مشكلة فى أن تكون هناك خلافات فى إدارة الملفات الإقليمية المختلفة، المشكلة فى الرهانات المعلقة على افتراضات.

لا توجد فى العالم كله تحالفات افتراضية، كل طرف فيها يتصور لنفسه حقوقا وعلى الآخر واجبات، دون أن تكون هناك قواعد تحكم اللعبة كلها وتحدد كيف تدار الخلافات.

الاختلاف بالحوار غير الاختلاف بالافتراض.

حق النقد، كما حق الاختلاف، مشروع وطبيعى بحسب زاوية النظر إلى الأزمة وأسبابها ومن يتحمل مسئوليتها.

ذلك كله شىء والانخراط فى التنابز شىء آخر تماما.

بقدر ما يتأسس أى اختلاف على حيثيات وحجج فإنه يكتسب احترامه وأحقيته فى عرض نفسه على الرأى العام.

هناك نقاط خلاف جوهرية بأكثر من ملف إقليمى حساس، وأسوأ ما يمكن أن يحدث أن نعود إلى نفس النقطة السابقة، تجاهل الخلافات دون سعى لتسويتها بالإقناع والتفاهم وبناء الرؤى المشتركة، وهذه مسألة صعبة، لكنه لا يمكن نفى أهميتها.

من شروط نجاح أى محاولة من هذا النوع إدانة أى تجاوز يقطع فى الأواصر ويصطنع الكراهيات ويتغول فى انتهاك كرامات الشعوب.

هنا خط أحمر نهائى.

بعض ما قيل أو كتب على فضائيات وشبكات تواصل اجتماعى يذكر بالأزمة المصريةــ الجزائرية على خلفية مباراة كرة قدم عام (٢٠٠٩) رغم اختلاف الظروف والملابسات وكل شىء تقريبا.

انفلتت الأعصاب عن كل سيطرة، وجحمت المشاعر بلا تعقل، مظاهرات بعشرات الألوف تحاصر مقرات وسفارات وتعتدى على مصالح، ترويع لمواطنى كل دولة فى شوارع الدولة الأخرى، وجرى تنابز بالأوطان على شبكات التواصل الاجتماعى، وتحريض على التصعيد فى الإعلام من الجانبين.

كانت تلك أزمة ملعونة بأى معنى عروبى أو حضارى أو إنسانى، وكان جانبا كبيرا فيها مقصودا لتوظيف المشاعر العامة التى تعلقت آمالها بالوصول إلى «المونديال» بديلا عن أى إخفاق سياسى واجتماعى.

باستثناء نخب محدودة، عروبية فى توجهاتها، جرت تعبئة إعلامية أقرب إلى الهستيريا المتبادلة.

كان المشهد كارثيا بالنسبة لبلدين تربطهما أوثق العلاقات والمشاعر، فقد لعبت مصر الدور الأكثر مركزية فى مساندة ثورة المليون ونصف المليون شهيد، وتحرير الجزائر من استعمار استيطانى حاول أن يلغى هويتها.

بتعبير «جمال عبدالناصر» عندما زار الجزائر بعد تحريرها: «الحمد لله إننا عشنا حتى نرى الجزائر عربية»، لم يمن عليها بالأسلحة التى وفرها، والأموال التى ضخها، والدعم الإعلامى الذى قدمه عبر «صوت العرب» التى وصل صوتها إلى عشش الصفيح وترددت على أثيره كلمة «الاستقلال» كأنها تعويذة سحرية تلهم الثورة.

بالقدر نفسه فإن الرئيس «هوارى بو مدين» ذهب إلى موسكو وكتب شيكا مفتوحا لإعادة تسليح الجيش المصرى بعد هزيمة يونيو دون أن يطلع «جمال عبدالناصر» على ما ينتويه، كما حاربت قوات جزائرية مع قوات عربية أخرى، فى أكتوبر (١٩٧٣).
رغم كل هذا التاريخ المضىء بالتضحيات فإن كل شىء بدا منكشفا فى لحظة على خلفية مباراة كرة قدم، حتى كاد كل بلد ينظر إلى شقيقه كعدو أخطر من إسرائيل.

اللافت أن الذين حرضوا على الكراهية لا يدعى أحد فيهم الآن أنه كان على شىء من الصواب، فالعار كامل ومريع.

فى كل الأزمات، فإنه يتوجب على النخب السياسية وجماعات المثقفين، وكل من له صلة بالضمير العام، الرفض القاطع والنهائى لأى تجاوز بحق أى شعب أو أى تنابز بالأوطان، فهذا عار.
** نقلا عن بواوبة الشروق

التعليقات