الحراك المجتمعى فى مصر بين قديم وجديد وتحديات القمع

إزاء إلغاء الفضاء العام والحصار الممنهج المفروض على المجتمع المدنى ومحدودية فاعلية الأحزاب السياسية إن المهادنة أو المعارضة والتراجع البين فى القدرات التنظيمية والجماهيرية لليمين الدينى، بدت أوضاع مصر بين 2013 و2016 وكأن السلطوية الجديدة قد صارت فى إخضاعها للمواطن والمجتمع وسيطرتها على مؤسسات الدولة دون منازع وكأن فرص مقاومتها والضغط السلمى من أجل انتزاع شىء من حقوق وحريات الناس قد أضحت إلى الخيال أقرب. ووظفت السلطوية أدواتها الإعلامية للترويج لقراءة الأوضاع المصرية على هذا النحو وأضافت أيضا تفسيرها التآمرى لثورة يناير 2011 ومرادفتها التحول الديمقراطى بهدم الدولة ونشر الفوضى وإلحاق البلاد بمصائر سوريا والعراق وليبيا.

تدريجيا وبفعل استمرار الانتهاكات والقمع والتعقب دون توقف، تملك الشعور بالإحباط وفقدان الأمل من بعض المطالبين بالديمقراطية ومن بعض المدافعين عن الحقوق والحريات واتجهت مقاربتهم للأوضاع المصرية أيضا إلى الدفع بغياب فرص مقاومة السلطوية الجديدة (ولا أستثنى نفسى هنا). حدث ذلك فى سياقات إقليمية وعالمية أرادت بها القوى الفاعلة إغلاق ملف «الربيع العربى»، ونعته بالفشل، وإعادة ترتيب أولويات بلاد العرب والشرق الأوسط لتصبح مواجهة الإرهاب متبوعة بمواجهة الحروب الأهلية والصراعات المسلحة متبوعة بسقوط الدول الوطنية متبوعة بأخطار الهجرة غير الشرعية وأزمة اللاجئين متبوعة بدعم بقاء أو صعود حكام أقوياء يعدون بالأمن والاستقرار ولا تعنيهم حقوق الإنسان والحريات من قريب أو بعيد. وتماهت ترتيبات حكم ما بعد 3 يوليو 2013 مع تلك السياقات الإقليمية والعالمية وأفادت منها، وتحول «الحاكم الجنرال» إلى شريك فى الحرب على الإرهاب فى الشرق الأوسط، وصنفت حقائق الانتهاكات والقمع والتعقب فى مصر إما كقضايا مؤجلة (كما يراها الغرب) أو كشئون داخلية لا تعنى القوى الإقليمية والدولية (كما تراها حكومات الخليج وروسيا والصين).

●●●
غير أن الترويج لمثل هذه القراءة السلبية للأوضاع المصرية يتجاهل واقع الحراك المجتمعى بين 2013 و2016 والاحتجاجات الشعبية المتصاعدة إن ضد الممارسات القمعية للسلطوية الجديدة أو إزاء سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التى تحمل مسئولية الأوضاع المعيشية المتدهورة لعموم الناس. وظهرت فى واجهة الحراك مجموعات من الفاعلين يتشابه بعضها مع فاعلى ما قبل 2011 ومع الفاعلين المؤثرين فى الفترة من 2011 إلى 2013 ويتمايز بعضها الآخر عنهم.
من جهة أولى، تطورت مبادرات احتجاجية ارتبطت بانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة، وضمت بين صفوفها طلاب وشباب ونشطاء وحقوقيين، وغابت عنها الأطر التنظيمية المحددة، والتزمت كل منها بقضية واحدة مثل جريمة الاختفاء القسرى أو سلب حرية مواطنين بسبب القوانين القمعية كقانون التظاهر أو جرائم التعذيب داخل السجون وأماكن الاحتجاز. مبادرات احتجاجية كمبادرة «الحرية للجدعان» التى تولت الدفاع عن حقوق المسلوبة حريتهم من الطلاب والشباب والإعلاميين تشابهت مع احتجاجات القضية الواحدة إن قبل 2011 مثل صفحة «كلنا خالد سعيد» (التى وظفت حادثة تعذيب وقتل عناصر أمنية للشاب السكندرى خالد سعيد لفتح ملف انتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب فى مصر ودعت المصريات والمصريين للاحتجاج العلنى فى يناير 2011) أو بعد 2011 مثل «ائتلاف دعم الأقباط» (الذى تشكل فى أعقاب مذبحة ماسبيرو التى قتل بها عشرات المتظاهرين الأقباط فى 9 أكتوبر 2011.

من جهة ثانية، نشطت بين 2013 و2016 نقابات مهنية اشتبكت مع السلطوية الجديدة بشأن قضايا تتعلق بالدفاع عن استقلال النقابات وغل يد الأجهزة الأمنية عن العبث بداخلها والانتصار لحقوق وحريات الأعضاء ومن بينها حرية اختيار ممثليهم والحماية من التعرض لاعتداءات الأمن وللممارسات القمعية والتعبير العلنى عن الرأى فيما خص قضايا نقابية أو قضايا عامة. وبرزت هنا نقابة الأطباء ونقابة الصحفيين اللتين اضطلعتا فى 2015 و2016 بأدوار حاسمة فى مقاومة السلطوية.

●●●
من جهة ثالثة، لم تتمكن السلطوية الجديدة من الضبط الأمنى للجامعات الحكومية والخاصة ومن القضاء التام على الحراك الطلابى. استخدمت السلطوية كل ما فى جعبتها من أدوات للقمع والتعقب ومن أدوات للحصار باسم القوانين واللوائح والإجراءات، بل واستعانت بشركات أمن خاصة للتواجد داخل حرم الجامعات ودفعت الإدارات الجامعية لإنزال عقوبات قاسية بالطلاب غير الممتثلين وسلبت حرية بعضهم وأحالتهم إلى المحاكم. على الرغم من ذلك، استمرت الجامعة بين 2013 و2016 كمساحة رئيسية لمقاومة السلطوية تارة بالتظاهر وتارة بالاعتصام وتارة بالمشاركة الكثيفة فى انتخابات الاتحادات الطلابية لإنجاح مرشحين غير مرشحى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

من جهة رابعة، أخفقت السلطوية الجديدة أيضا فى القضاء على الحراك العمالى ولم يفلح المزج بين القمع والتعقب وبين إجراءات الترهيب المتراوحة بين الفصل التعسفى من مكان العمل وبين إحالة بعض العمال المحتجين إلى القضاء العسكرى فى إنهاء الاحتجاجات العمالية. بين 2013 و2016، تواصلت الاحتجاجات العمالية باستخدام أدوات التظاهر والاعتصام والإضراب وللمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية معرفة جيدا، وامتدت خريطة الاحتجاجات العمالية لتشمل القطاعين العام والخاص ولتجمع بين العمال وبين الموظفين (سلك الخدمة المدنية).

من جهة خامسة، تكرر خروج بعض المواطنات والمواطنين إلى المساحات العامة للاحتجاج على قرارات وإجراءات وممارسات حكومية بعينها كتورط عناصر أمنية فى تعذيب وقتل مصريين داخل أماكن الاحتجاز الشرطى (كما حدث فى 2015 و2016 فى مدينتى الأقصر والقاهرة) أو للاعتراض العلنى على سياسات حكومية (مثل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية الذى تلاه لعدة أيام تظاهرات شعبية واستنفار أمنى واسع). ولأن السلطوية الجديدة أحكمت سيطرتها على المساحات الإعلامية التقليدية (إن ذات الملكية العامة أو الخاصة)، اضطلعت شبكات التواصل الاجتماعى بأدوار رئيسية فى إخبار الناس بأن وقائع التعذيب والقتل أو بتفاصيل السياسات الحكومية وحفزت بعضهم على الاحتجاج العفوى وبسلمية. ولم تتوقف مثل هذه الاحتجاجات العفوية على الرغم من القمع البالغ الذى وجهت به والكلفة الباهظة التى تحملها بعض المحتجين عنفا أمنيا وسلبا لحريتهم.

●●●
بالقطع، حاولت السلطوية الجديدة أن تدير أمنيا مبادرات القضية الواحدة والحراك النقابى والطلابى والعمالى كما الاحتجاجات العفوية واستخدمت أدوات القمع المباشر وأدواتها القانونية الموظفة لتهجير المواطن ولإغلاق الفضاء العام للسيطرة على الفاعلين المشاركين. استعادت السلطوية ماضى الحصار الأمنى للنقابات المهنية وللحركات الطلابية والعمالية وأضافت لقوائم المسلوبة حريتهم نشطاء يدافعون عن حقوق وحريات القابعين وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز ومواطنات ومواطنين خرجوا عفويا وسلميا إلى الشارع لمعارضة قرارات وممارسات حكومية. تكررت مشاهد ما قبل 2011 مثل التفخيخ الأمنى للنقابات المهنية التى تعارض مجالس إدارتها المنتخبة السياسات الرسمية، والصراعات المصطنعة بين المجالس المنتخبة وبين أعضاء فى النقابات عرف عنهم التبعية للأجهزة الأمنية، والأطواق الشرطية المحيطة بمقرات النقابات وبالمصانع التى تحدث بها تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات. غير أن السلطوية الجديدة وجدت بين 2013 و2016 صعوبات حقيقية فى كبح جماح أنماط الحراك هذه وواجهت تحديات قوية رتبت أحيانا تنازلات من قبل مؤسسات وأجهزة حكومية مختلفة.

●●●
اليوم تبدو السلطوية فى مأزق مجتمعى وسياسى يتناقض مع سيطرتها شبه المطلقة على المساحات الإعلامية التقليدية وإغلاقها للفضاء العام وحصارها للمجتمع المدنى وتسفيهها للمساحات الرسمية لممارسة السياسة وللأحزاب السياسية.

التعليقات