⁠⁠شبع البطون .. وجوع العقول !

 

مصر كلها تتحدث هذه الايام عن ازمة السكر ، وقبلها كان الحديث عن ازمة لحوم الحمير ، وقبلها عن القمح المسرطن !. الاعلاميون والمصريون جميعا تحولوا فجأة  الى خبراء في " فطر الارجوت " ، وكالعادة تغيب القضايا الكبرى والازمات الخطيرة المزمنة اذا مااقتربت الازمة من البطون ، ويعلو الصراخ .. الحقونا ازاي هانعيش بدون سكر،بينما نحن  نعتبر من  اكثر شعوب العالم استهلاكاً له وبإفراط مبالغ فيه ،وربما نحن الشعب الوحيد في العالم الذي يشرب الشاي بخمس ملاعق سكر ، ويلتهم  نصف استهلاكه السنوي من السكر في شهر واحد  هو شهر رمضان !.

 

والعجيب ان هناك ماهو اخطر من السكر ولحم الحمير ، هناك" مرض السكر"  الذي يصيب اكثر من ٤٠بالمائة من المصريين ويموت بسببه الالاف مع الضغط والقلب ، وهناك الاخطر من لحم الحمير ، هؤلاء الضحايا المحشورين في فصول التعليم العام والجامعي تتلوث عقولهم بمناهج عقيمة بالية ، يتعلمون التطرف وكراهية الآخر والتمييز ضد المرأة وضد كل الاديان والعقائد منذ الصغر ، محرومون من المعمل والملعب وحصة الموسيقى والبحث وحرية التفكير ، منظومة تعليم فاشلة وفاسدة ومعها منظومة صحة قاتلة للمصريين المحرومين من الرعاية ومن سرير في مستشفى ومن مظلة تأمين صحي لكل مواطن ! ، هذه هي نوعية الازمات الكبرى والاكثر خطراً وتهديدا لحياة المصريين ، وليست ازمة سكر عابرة او فساد في الاغذية ، ان هناك من المشاكل مايمكن علاجها بتغيير مسئول أو اقالة وزير أو بعقاب تاجر جشع ، ولكن ماذا نفعل في اكبر عملية تخريب للتعليم وللعلم وللعقل المصري تحدث في المدارس والجامعات  لاكثر من نصف قرن ، وماذا نفعل لاخطر اهمال لصحة الانسان المصري الفقير  الذي يلقى حتفه كل يوم بالعشرات على ابواب المستشفيات بحثاً عن كيس دم او علاج على نفقة الدولة !.
ولو نظرنا الي " ازمات البطون " سوف نكتشف ان معظمها بسبب سوء الادارة او فساد الاجهزة ، أما الازمات الكبرى المزمنة ، صحة ، تعليم ، صناعة ، زراعة ، انتاج وتصدير .. الخ ، فهى كلها تنتمي لفقر الفكر وانعدام الرؤية وغياب التخطيط للمستقبل ، ومشكلتنا دائما تكمن في ضياع الاولويات ، هل ننشغل اكثر بازمات الحياة اليومية وارضاء المواطن ( أو إسكاته )، بحلول عاجلة لازمات السكر والارز واللحوم والفراخ ، أم بالتعليم الذي ينتج العقول القادرة على الانتاج ؟
ان المواطنين الذين يشتكون من اختفاء السكر ربما لا يشتكون من انهيار التعليم الا عندما تكون الامتحانات صعبة ويعجز ابناءهم عن الحصول على ٩٩بالمائة التي تؤلهم لدخول الطب او الهندسة ، والذين يصرخون من غلاء اللحوم واكل لحم الحمير ، لا يحتجون على سوء الخدمة الصحية ولايضغطون لتحسين منظومة العلاج الا عندما يدوخون بحثا عن علاج على نفقة الدولة !، وتظل دائما ثقافة القبول بالامر الواقع واليأس من التغيير هي آفة المصريين الذين اصبحوا يقارنون انفسهم باليمن وسوريا ولا ينظرون لجيران كانوا وراءنا بسنوات فسبقونا بعشرات السنين ، لا نقول لماذا لانكون مثل الامارات ، ولكن نحمد الله فحسب اننا لسنا ليبيا او العراق ، فقدنا الاحساس بالتميز واخترنا اللاكفاءة والنص نص ، توقفنا عن الحلم ، نخاف من الشكوى والاعتراض لان هذا في نظر البعض اما خيانة او جحود ، .. مش تحمدوا ربنا انكم تخلصتم من حكم الاخوان ؟!، ولا يعرف هؤلاء ان الخطر الاكبر من خطر الاخوان هو الفكر الذي جاء بالاخوان ، هو نظام التعليم الذي يربي الاجيال على فكر الاخوان وتطرف السلفيين وعنف التكفيريين . ولم تكن لدى المسئولين في اي وقت شجاعة مواجهة القضايا الكبرى المتعلقة بتجديد الفكر وتحديث الدولة والتحول الحقيقي لدولة مدنية عصرية باطلاق ثورة حقيقية تهدم منظومة التعليم المتخلفة او شجاعة بناء منظومة صحية تحفظ كرامة المصريين وتوفر لهم العلاج المناسب . ولكنهم ظلوا دائماً يختبئون وراء الشعارات ويكتفون بالمسكنات والحلول المؤقته .
واتمنى ان تتبنى حكومتنا رؤى محددة وخطط مفصلة لمواجهة ازماتنا الاكثر خطورة والحاحاً سواء في التعليم او الصحةاو البيئة او الثقافة ، وعندئذ سيكون في رأيي علاج باقي الازمات اسهل بكثير ، ولكي تتمكن الحكومة من التصدي للاولويات بكفاءة لابديل امامها الا التعاون مع المجتمع المدني والاحزاب والمثقفين والخبراء في كل مجال ، الامم الحية الناهضه لا تتغير ولا تتقدم بدون شراكة كاملة مع المجتمع المدني ، الحكومة المثقلة بالاعباء والمشاكل لاتستطيع وحدها حل المعضلات المزمنة والتركة الثقيلة ، بدون ذلك سوف يبقى الشعب المنهك المستهلك يستهلك اطنان السكر ويشرب الشاي الاسود ليل نهار في انتظار من يملك شجاعة القرار ومشرط الجراح ليستأصل مرض الخضوع والخنوع للامر الواقع  ويبدأ في مواجهة جذرية لازماتنا الحقيقية ، أزمات فراغ العقل وليست أزمات فراغ البطون !.
التعليقات