عندما تقطع الحكومة عضوها الذكري !

طلبت مراراً في  مقالاتي السابقة بمزيد من الاهتمام بواحدة من أخطر قضايا مصر المنسية والملتبسة وهي قضية تمكين المجتمع المدني و منظماته لمشاركة الحكومة في الحمل الثقيل الناتج عن سنوات من الاهمال و سوء الإدارة لجميع خدماتنا التعليمية و الصحية و الاجتماعية . وفي الحقيقة فإن  كل دول العالم بصرف النظر عن مستواها العلمي، المالي أو الاجتماعي تحتاج الي منظمات مجتمع مدني لسد الفجوات التي تحدث بسبب عدم استطاعة الحكومات تلبية الاحتياجات وتغطية كل المجالات. وفي السنوات الأخيرة تعاظمت في العالم كله فكرة مشاركة المؤسسات و الشركات في تنمية المجتمعات من خلال ما نسميه اليوم: المسئولية الاجتماعية للمؤسسات و قطاع الأعمال"  corporate social responsibility.

وجميع الشركات الكبيرة و الصغيرة تدرك أنها مطالبة بدور هام وانها مسئولة عن المشاركة في  تنمية المجتمع بجانب واجبها نحو سداد الضرائب ودورها في دعم قاعدة الصناعة و التجارة . ولا يمكن لهذه الشركات أن تُمارس هذه المسئولية الا من خلال جمعيات المجتمع المدني التي تمتلك دراسات ميدانية لما يحتاجه المجتمع ولشرائحه المختلفة ، و لديها خبرة في إدارة هذه المشروعات الميدانية الاجتماعية بطريقة علمية وتوفير ضمانات استدامة هذه المشاريع "sustainability ".

و هنا نأتي الي اللغز  الذي لا أستطيع أن أفهمه ، و هو إصرار الدولة ممثلة في الحكومة و مدعومة من برلمان يعمل قطعا بالتحكم عن بعد "remote control" من مكاتب الأجهزة الأمنية في منشية البكري و لاظوغلي ( الان في اكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس ) ، لاضعاف وتقليل شأن منظمات المجتمع المدني بل قتلها تماما بالقانون الجديد للجمعيات الأهلية الذي أدخل عقوبات حبس يصل الي مدي الحياة و غرامات تكسر ظهر أي مؤسسة أو جمعية لمجرد وقوعها في اخطاء  ادارية.

لا أفهم أنه في وطن مريض بأمراض اجتماعية  خطيرة ، مثل الأمية و التمييز الديني و الجهل الصحي و الغياب الثقافي و الضياع البيئي ، و في بلد يحتاج الي تدريب مهني و فني و أخلاقي بل يحتاج الي اعادة تأهيل المجتمع وطنيا وقانونياً ليعرف المواطن حقوقه و واجباته، لا أفهم أن نصر علي إطفاء واخفاء الضوء الوحيد الذي يمكن أن يقوم  بهذا الدور والمتمثل في  جمعيات المجتمع المدني.

و بالطبع فان المؤيدين لهذا القانون المعيب يزعمون أن كثير من الجمعيات الاجنبية التي عملت اوتعمل في مصر تتبع مؤسسات مخابراتية و مولت نشطاء و سياسيين أضروا بمصلحة مصر ، و لكن العجيب انه في نفس الوقت و منذ ثورة ٢٥ يناير لم توجه النيابة العامة تهمة واحدة لأي من هؤلاء رغم تداول اسماء  و كشوف علي صفحات التواصل الاجتماعي تشير الي حصول بعض السياسيين و الاعلاميين و النشطاء مرتبات و مبالغ دورية من جهات معينة... فلماذا لا تقوم الدولة بحسم هذا الجدل ووقف هذا اللغو والشائعات الرخيصة بإجراء تحقيق شفاف تعلن نتائجه على الرأي العام ؟..و لماذا تعتمد السلطة في قراراتها ومواقفها علي شائعات و تكهنات؟!

ولنفترض جدلاً ، أن البعض حصلوا فعلا علي تمويل غير قانوني لانشطتهم ، فلماذا لا نتعامل مع كل واقعة علي حدة ؟ نحن لدينا كل يوم حوادث سيارات علي الطرق، هل يعني هذا ان نمنع ونحرم ونجرم قيادة السيارات؟ و لدينا يوميا حالات تجاوز من الشرطة مع المواطنين فهل يعني هذا إلغاء جهاز الشرطة؟!لماذا دائما نبحث عن الحلول السهلة العمياء او قصيرة النظر  التي تضر في النهاية بمصالح البلد وتسئ لسمعتها ولصورتها أمام العالم الذي يتهمنا بقمع المجتمع المدني وقتل المبادرات الشعبية ؟

ان قانون الجمعيات الأهلية الجديد تم نقده ورفضه من جميع النشطاء الاجتماعيين والحقوقيين  و من الاعلاميين الأحرار، ( لا المخبرين ) وهاجمته وشجبته مؤسسات دولية وسفراء و جمعيات اقليمية عديدة قررت الانتقال الي الأردن و لبنان لعدم تمكنها من الاستمرار في العمل من مصر. فهل  هذا ما أردناه ، وهل تقبل مصر ان تصنف كدولة معادية لتيار عالمي وانساني يحترمه العالم وتدعمه الامم المتحده ؟

الا ندرك أن قتل الجمعيات الأهلية يعني أيضا قتل المسئولية الاجتماعية للشركات و المؤسسات و يقتل رغبة و طموح أي مواطن محب لوطنه يسعي الي خدمة المجتمع من خلال تطوعه لممارسة اي نشاط اجتماعي في جمعية أهلية؟

ان مصر والمصريين سيدفعون ثمناً باهظاً للاستهانة والتجاهل والتشوية لمنظمات وهيئات المجتمع المدني التي لابديل لها الا اكتساح السلفيين والاخوان للمجتمع والتسلل لقرى ونجوع المجتمع المصري بالخرافات وتحويل مصر الى دولة دينية .
ان الحكومة تتصرف كالزوج الغبي الذي غضب من زوجته  فعاقبها بقطع عضوه الذكري !. وللاسف فهي حالة مستعصية ليس لها علاج !!.

التعليقات