بيئة قوانين الصحافة والإعلام!

يجب أن أعترف بعجزى التام عن المتابعة، فضلا عن الفهم، لما جرى ويجرى حول قوانين الصحافة والإعلام. وفى «مناظرة الأربعاء» التى يقدمها الأستاذ إبراهيم عيسى على قناة «القاهرة والناس» لم تكن الحدود واضحة بين الأستاذين عبد المحسن سلامة وأحمد طنطاوى فى الإجابة على السؤال المطروح، وعما إذا كان قانون مجلس النواب سوف يدعم الحريات الصحفية. ورغم أن الأستاذ عيسى حافظ على صمت غير معتاد؛ إلا أن النتيجة التى جاءت من المشاهدين، وبنسبة ١٠٠٪ كانت أن مجلس النواب لن يفعل. وعلى أى الأحوال لم يكن مفهوما من النقاش أى الطرق بين الثلاثة قوانين أو القانون الواحد سوف يجعل الحريات مزدهرة. ومن ناحيتى فإن القلق على حرية التعبير لم يعد مطروحا، ليس بسبب أن الإيمان بحرية القول قد بات من الفضائل القومية، وإنما لأن الأمر كله بات مستحيلا. فصحف العالم، ومحطاته التليفزيونية، وملايين المواقع الإلكترونية، والرسائل التليفونية، والأخرى الواتس آب التى تشمل صورا وتسجيلات وغمزات ولمزات ونميمة من كل نوع، فضلا عن كل ما هو جديد من «اليوتيوب»، قد جعلت من كل الذين يعترضون حرية الرأى لا يفلحون فى أى نوع من الاعتراض.

راجع ما جرى فى العمل الإرهابى فى الكنيسة البطرسية وتابع ما جرى بعد دقائق من الحادث، ومن أول الانفجار وحتى الجنازة، ومن بعدها الكشف عن الجناة وفيهم الانتحارى وتابعوه. لم تكن القضية هى الخبر ونقله، ولا التصوير فى المكان وإرساله، ولا كان هناك نقص فى التحليلات التى تراوحت ما بين تحليل الحيرة، أى لماذا لا نعرف، إلى تحليل التخيلات والفرضيات. الآلة الإعلامية كانت ضخمة وهائلة وقادرة على مضغ ملايين، أو مليارات الكلمات، واستهلاك ما هو أكثر من وحدات «البيكسيل» التى تكون الصورة. ببساطة ماذا يفعل رقيب فى كل ذلك، وكم من ملايين الجنيهات التى عليه إنفاقها لمراجعة الكم الهائل من الإعلام، فضلا عن التمييز فيه بين ما هو حلال أو حرام أو يدخل فى فصيلة «ازدراء الأديان»؟ وهل إذا انفض السامر كله، ولم يبق إلا حالة الهياج الإعلامى فى أدوات التواصل الاجتماعى التى يدخل فيها الملايين ويخرجون بسرعة مخيفة ولكنه بين الدخول والخروج فإن الجملة الإعلامية تكون قد خرجت معبرة عن حيرة، أو حكم، أو لعنة من نوع أو آخر.

وبصراحة فإن الإشكالية الكبرى فى قوانين الإعلام والصحافة قد وصلت إلى نهايتها؛ وهى التى قامت من ناحية على التوتر بين الحرية والأمن، ومن ناحية أخرى بين التعبير عن الدولة (الحكومة فى الحقيقة) أو كل هؤلاء من غير الدولة، وهى طائفة كبيرة تجمع المعارضة مع المتوجسين أو الذين هم بطبيعتهم حيارى. الحرية فى كل الأحوال سوف تظل متاحة، ولن يوجد صاحب رأى أو وجهة نظر أو حالة نفسية سوف يعجز عن التعبير فى وسيلة إعلامية أو أخرى عما ورد على ذهنه من آراء أو حقائق أو ببساطة هلاوس. والأمن مهما وصل من إجادة فى الصمت، أو التجاهل، أو التنازل عن بعض الحقائق، أو إلقاء أنواع من اللوم على الإعلام، فإن ما يستطيع فعله إزاء الحالة الإعلامية قليل، والأرجح أنه سوف يفقد فضل المساعدة من قبل الرأى العام فى القبض على المجرمين والإرهابيين.

فإذا كانت معادلة الأمن والحرية ليست بتلك الصعوبة المتخيلة، فإن المعضلة الأخرى الخاصة بالدولة ومن ليسوا معها مائة بالمائة ربما تكون هى المشكلة التى نبحث لها عن حل فى قوانين الصحافة والإعلام. بالطبع فإن الإعلاميين والصحفيين يدخلون إلى الصورة لأنهم الطرف الحرفى صاحب المصلحة المهنية، ومع ذلك فإنهم لا يتحدثون كثيرا عن المهنة وإنما الكلام الأغلب عن الحرية التى هى أكثر نبلا وشجاعة. ولكن الواقع هو أن القوانين لا تضيف كثيرا للمهنة لأن مهمتها هى «تنظيم» الصحافة والإعلام لأنه لا يمكن تركها على حالها الذى هو أقرب للفوضى لأنه جرى وضع الحواجز بين الإعلاميين والصحفيين حتى ولو كان ـ مع حفظ الألقاب ـ إبراهيم عيسى ووائل الإبراشى وأحمد موسى ولميس الحديدى والإخوة أديب (عماد وعمرو) ومجدى الجلاد وخيرى رمضان كلهم صحفيون، وبعضهم يعمل رئيسا لتحرير صحيفة أو كاتبا منتظما فيها. وبالطبع فإن الصحفيين لديهم نقابة دأبت طوال تاريخها على رفض الإعلاميين الذين يبحثون عن الخبر ويقومون بالتحقيقات؛ ولذا فإن الجماعة الإعلامية قررت أن يكون لها نقابتها هى الأخرى. هذه التقسيمات بين الفريقين تضع أول أشكال الفوضى حيث ينقسم المختلطون طول الوقت، والذين يعملون بأرواح مختلفة أمام الميكروفون أو الكاميرا أو يسطرون بالقلم على صحائف بيضاء. وإذا ما أضفنا تقسيمات أخرى بين اليمين واليسار، والمحافظين والليبراليين، ومن يريدون تجديد الفكر الدينى ومن يخافون على الدين من التجديد، فإن القبائل الإعلامية الصحفية تعيش معتركا حادا بغض النظر عن القوانين القديمة أو الجديدة.

بالطبع كان لا بد من إصدار القوانين المكملة للدستور، فلم تجتمع لجنة الخمسين لشهور لكى تبقى موادها معلقة دون استكمال. وطالما أن الأمر يحتاج تشكيل مجالس وطنية وقومية للصحافة والإعلام وكلاهما معا فإن تحقيق ذلك ملزم للجميع. ولكن المسألة لا يمكن لها أن تكتمل ما لم نعرف كل الحقائق المصاحبة لها، لأن إصدار القوانين لا يحدث فى فراغ، فهناك نقابة للصحفيين نقيبها، واثنان من قياداتها، قيد أحكام حبس لجرائم لا علاقة لها لا بالرأى ولا بمشاهد تليفزيونية أو بما هو مسموع من كلام. وهناك صحف قومية وخاصة وحزبية ومستقلة وكلها تعبيرات لا يمكن توقيعها على الواقع. ففى الصحف، كما فى كل وسائل الإعلام فإن الجميع لا شك قومى، كما أنه بفعل المهنة خاص يعبر عن رأيه «الشخصي» أو يستخدم معرفته الشخصية فى اختيار الخبر أو الموضوع أو الصورة، والكل متحزب لجماعة أو بفعل الثقة بالنفس يعتبر نفسه حزبا وحده، ومن الذى فى النهاية لا يعتبر نفسه من المستقلين وإنما من التابعين لهذا الجانب أو ذاك فى الحياة السياسية.

وبصراحة فإن المسألة ليست مجرد وجهات نظر، وإنما لا بد فى البداية أن يكون لدى الشعب المصرى، ومجلس النواب، المعلومات كاملة عن المؤسسات القومية وتلك الخاصة، إذا جازت التسميات، وجاز التعبير. ومن عجب أننا نعرف عن مئات المشروعات فى الدولة، ومنذ البداية يمكن الحصول على التكلفة، وسوف نعرف مع بعض البحث ما تم تخصيصه فى الموازنة العامة، ولكن مثل ذلك لا نعرفه فيما يخص مؤسسات إعلامية وصحفية عامة. كل ما نسمعه هو مناشدة للدولة أن تأخذ بيد الصحافة القومية لأنها تقدم خدمة لا تخضع للربح والخسارة، أو هكذا قيل حتى لا نعرف أبدا عما إذا كانت هذه المؤسسات قامت بمهمتها أم لا. وإذا كان ذلك كذلك فما هو حال المؤسسات التى ليست عامة، ولماذا يمكن إنقاذ الأولى من التعثر بينما نحرم الثانية وهى التى تلجأ لها الدولة ساعة الأزمات.

ولمن عاش فى كلتا النوعيتين من المؤسسات فإن المهمة كانت دائما واحدة، وكان الهدف هو تقديم المعرفة للمواطنين سواء كانت كاملة أو ناقصة، ولكن الفضل فى كل الأحوال هو للمحاولة لأن بيئة المعلومات والمعرفة هى فى حد ذاتها ناقصة عن عمد أو غير عمد. هل يمكن للقوانين أن تضع كل ذلك فى أنساق محمودة ومفيدة؟

 

التعليقات