طائرةٌ للفاسدين والسد العالى الجديد

وقف الرجلُ ضيّقُ العينين فى منتصف الطائرة الصغيرة يُلوّح بيده غاضبًا ويشيحُ بوجهه عن الرجال ذوى الياقات العالية، الذين يستقلّون معه الهليوكوبتر، ثم وجّه بصرَه نحو نافذة الطائرة والشررُ يتطاير من عينيه. رفع سبّابته مُحذِّرًا متوعّدًا: «سوف أُلقى الفاسدين منكم من هذه الطائرة؛ ليسقطوا من حالق مُلاقين حتوفهم الُمستحقّة. لن أرحم فاسدًا فى حكومتى مهما كان منصبُه ومهما صغُرت خطيئتُه. ولن تخِز ضميرى شوكةُ تأنيب على الإطلاق. فلا مجال لتهاون حين يخصُّ الأمرُ سلام بلادى وسلامتها. ولتعلموا أننى قد فعلتها من قبل، غيرَ آسفٍ. ولا ضيرَ أبدًا أن أكررها مجددًا حتى تتطهّر دولتى من الفساد والُمفسدين فى الحكومة والمحليّات والمؤسسات!»

الكلامُ والسيناريو السابقان، ببعض تصرّفٍ أدبيّ، هو فحوى ما قاله وفعله هذا الأسبوع، الرئيسُ الفلبينى «رودريجو دوتيرتى» فى إحدى رحلاته التفقدية بالطائرة الرئاسية مع مسؤولين من رجال حكومته. وتذكرُ الصحفُ والمواقع أن الرئيس الفلبينى، المشهور عنه سرعة الغضب وردود الفعل غير المحسوبة، قد سبق أن ألقى من طائرة هليوكوبتر رجلا صينيًّا «اِشتُبه» فى ارتكابه جريمتيْ الاغتصاب والقتل. ولن نعرف على وجه اليقين إن كان الرئيس بالفعل قد ارتكب تلك الجريمة الهزلية، أم أنها حدوتة كِنائية من نسج الخيال ترمز لسرعة غضبه وميله للحسم الدمويّ للاعوجاج، على نحو فورى ودون محاكمة. على أن المتحدث الرسمى باسم الرئيس، حين سُئل حول هذا، لم يؤكد ولم ينفِ، لكنه ألمح بخيالية الحكايا بقوله: «دعونا نصفها بأنها أسطورة رمزية».

وفى خطبةٍ سابقة لتلك الواقعة: الكوميدية إن كذبت، الكارثية إن صدقت، وقف الرئيسُ الفلبينيّ أمام مواطنيه من متضررى إعصار حدث مؤخرًا بالفلبين قائلا: «الأسبوع الماضى، ألقت الشرطةُ القبض على ستة مواطنين كان فى حوزتهم نصفُ طن من شابو (منشّط يُجرّمه القانون)، أولئك المجرمون كانوا محظوظين للغاية، لأننى كنتُ خارج العاصمة يومها. لو كنت فى مانيلا وشاهدتُ بعينى هذا الكمَّ من المخدرات ما ترددتُ لحظة فى قتلهم فورًا. وبعيدًا عن أى دراما؛ توقعوا دائمًا أننى سأسحبُ مسدسًا وأُرديكم قتلى، إن كنتم فاسدين. هذا إن لم يفعل ذلك شخصٌ آخر».

وبعيدًا عن رعونة ذاك الخطاب الرئاسيّ، وعن تهوّر رئيس دولة على هذا النحو غير المِهنيّ غير الإنسانى غير القانونى، إن كان يفعل ما يهدّد به، دعونا نتلمّس الفكرة الرمزية من تلك الحواديت، ونحاول أن نتخيّل أن رئيسًا كهذا قد اِبتُلى بحكم الجميلة المُرهَقةِ بنا، المتعوسة بنا، المحزونة بنا: مصر! تُرى كم طائرة نحتاجُ لكى نطهّرها من الفاسدين؟!

وأنا أطالع ذلك الخبر: «رئيس الفلبين يهدد بإلقاء الفاسدين من الطائرة»، فى عدّة صحف غربية وعربية، تذكّرت حوادث مشابهة صنعها زعماءُ كبارٌ سجّلتها مدونةُ التاريخ. لكن أولئك الزعماء عالجوا أمر الفاسدين على نحو إيجابيّ، وليس على الطريقة الفلبينية الرعناء. فمثلا، يعلّمنا التاريخُ أن الزعيم والمفكّر الروسى «جوزف ستالين» رفض إطعام نزلاء السجون من الخارجين عن القانون من أموال الدولة وكدّ الشعب الروسيّ وتعبه. فماذا فعل؟ حوّل السجناء إلى فلاحين مُنتجين يزرعون الأرض، فساهموا فى تحويل روسيا من بلد زراعيّ إلى أعظم قوة صناعية فى العالم أثناء الحرب العالمية الثانية.

كذلك فعلت البرازيل فى سجن «سانتا ريتا». حيث وضعت الدولةُ فى لائحة السجن قانونًا يسمح لأى نزيل أن يُنقص من مدة عقوبته يومًا واحدًا، مقابل كل أربع وعشرين ساعة يقوم فيها السجين بتدوير عجلة رياضية، حيث يُستفاد من تلك الحركة فى توليد الكهرباء للمنطقة المحيطة بالسجن، مثلما يستفيد السجيُن بالتريض، فلا يخرج من السجن مترهلا من فرط الخمول والكآبة والكسل، بل يخرج صحيح البدن سويّ النفس. لأن الرياضة فى ذاتها تهذّب الروح وتنقيها من الشهوات والمفاسد. بعد سنّ ذلك القانون، لاحظ المراقبون انخفاض معدلات العنف بين النزلاء، حينما شعروا أنهم يُكفّرون عن جرائمهم بتقديم خدمة حقيقية لوطنهم، ذاك الذى أساءوا إليه وهم أحرارٌ خارج القضبان.

لا شك لديّ فى أن قانونًا كهذا لو طُبّق على الفاسدين فى مصر، سنكون فى غنًى كامل عن كهرباء السدّ العالى. اللهم نقِّ بلادى من الفاسدين كما يُنقّى الثوبُ الأبيضُ من الدنس.

 

التعليقات