آخر كلمات سعد باشا

ما كادت شمس العام الجديد تشرق حتى أيقنت أن هناك مؤامرة كونية تحاول أن تنقلنى قسراً، من معسكر الذين يحترفون التفاؤل إلى معسكر الذين يحترفون التشاؤم، إذ توالت أنباء السوء تذكرنى بالمثل الشعبى «سعد باشا قبل ما يموت قال لها: مفيش فايدة يا صفية»، فى إشارة إلى رواية متواترة تزعم أن هذه العبارة هى آخر ما قاله زعيم ثورة 1919، لزوجته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

أول أنباء السوء هذه نشرته الصحف صباح أول أيام العام الجديد، وخلاصته أن المؤتمر العام «حزب المصريين الأحرار» قد عقد جلسة طارئة فى اليوم السابق لكى يقرر إلغاء مجلس الأمناء الذى يضم فى عضويته مؤسس الحزب، وراعيه، ومموله الرئيس المهندس نجيب ساويرس، لأن هذا المجلس - طبقاً لرأى المؤتمر - يمثل وصاية على هيئات الحزب الأخرى، وهو مؤتمر قرر مجلس الأمناء وعدد من أعضاء الهيئة العليا للحزب اللجوء إلى القضاء للطعن على مشروعية تشكيله ومشروعية القرار الذى صدر عنه، وهى الخطوة الأولى من سلسلة خطوات سوف تنتهى بصدور حكم بتجميد نشاط الحزب، إلى أن تنتهى أطراف النزاع من تسويته فيما بينها رضاءً أو قضاءً، طبقاً للسوابق التاريخية التى انتهت إلى تجميد أنشطة أحزاب، كان من بينها «الأحرار الاشتراكيين» و«العمل الاشتراكى» و«العربى الناصرى» و«الأمة»... إلخ.

ما لفت نظرى من بين الأسباب التى بنى عليها المؤتمر قراره بإلغاء مجلس الأمناء القول بأن هذا المجلس - وبالذات «ساويرس» - يريد للحزب أن يكون حزباً معارضاً طوال الوقت، وأنه يرفض اقترابه من الدولة، وهو ما يعنى أن جوهر الخلاف يكمن فى موقف الحزب من سياسات الحكومة القائمة، وهو توصيف يفتقر للدقة، لأن «حزب المصريين الأحرار» - كما تدل على ذلك وثائقه - يقف من حيث المبدأ فى المعسكر نفسه الذى يقف فيه النظام وحكومته، فهو مثلهما ينطلق من رؤية رأسمالية واضحة، تؤمن بأن حرية الاستثمار هى التى تقود إلى الرفاهية العامة، وتحقق النمو الاقتصادى، وتفتح الباب أمام العدل الاجتماعى، بل إن مجلس الأمناء ساند الحكومة فى مواقف كانت مثاراً للجدل، مثل قانون الخدمة المدنية، وقرار تحرير سعر الصرف، فى حين عارضها بعض نوابه الذين شاركوا فى المؤتمر، وأيدوا قراراته.

ومع أن الرأسمالية التى جمعت بين النظام القائم وحزب المصريين الأحرار لم تحُل بين الحزب ومعارضة بعض سياسات النظم الاقتصادية، ومن بينها محاولته تنشيط دور القطاع العام فى الاقتصاد عبر المشروعات العامة التى تقوم بتنفيذها القوات المسلحة، بعد أن تخلت الرأسمالية المحلية عن ذلك، إلا أن الخلاف الرئيسى بين الطرفين يكمن فى أن الحزب ينطلق من رؤية واضحة تماماً بأن الوجه الآخر للرأسمالية فى الاقتصاد هو الليبرالية فى السياسة والاجتماع، وهو اتجاه لا يتحمس له إلا قليل من أجنحة النظام القائم، بينما تجد الاتجاهات الأخرى التى تدعو إلى ديمقراطية غير حزبية وإلى رأسمالية غير ليبرالية، دعماً قوياً من الظروف الاقتصادية السيئة التى ورثتها من العهود السابقة، ومن الإرهاب الذى يسعى لتخريب كل ما ينجزه النظام، وهو - للأمانة - كثير، ومن التآمر الخارجى الذى يحيط بالأوضاع المصرية من كل جانب.

ومشكلة الطرفين - النظام والحزب - أن سياسة الديمقراطية غير الحزبية والرأسمالية غير الليبرالية، التى صممتها هذه الأجنحة، قد أسفرت عن تركيب مختل لأول مجلس نواب بعد ثورة 30 يونيو، فمع أن نصف أعضائه ينتمون إلى 19 حزباً، والنصف الآخر من المستقلين، الذين يشكلون ما يسمى «ائتلاف دعم مصر»، إلا أن أحداً من المواطنين لا يشعر بأن هناك تمايزاً بين مواقف هذه الأحزاب، أو معرفة نواب كل حزب ببرنامجه المعلن أو التزاماً منهم بالدستور الذى أقسموا على حمايته.

وكان ذلك ما عانى منه «حزب المصريين الأحرار»، الذى يشارك معظم نوابه فى مؤتمر الإعلان عن الانتقال من معسكر المعارضة إلى معسكر الموالاة، ولم يجد بعض من حضروه حرجاً فى التصريح بأن من بين الأسباب التى دعتهم لإلغاء مجلس الأمناء أن أحد أعضائه - وهو نجيب ساويرس - قد غضب، لأن رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب وهو عضو بالحزب، قد شارك فى حملة التجريح التى أقامها مجلس النواب ضد الإعلاميين عموماً، وضد الإعلامى إبراهيم عيسى بخطبة عصماء، وكأن من الطبيعى أن يشارك نائب ينتمى إلى حزب ليبرالى ويمثله فى رئاسة لجنة حقوق الإنسان فى حملة تستهدف قصف الأقلام وتسويد الشاشات ومصادرة حرية الرأى والتعبير، بحكم أن تلك هى الليبرالية وحقوق الإنسان على الطريقة المصرية.

حدث ذلك بينما يحاول بعض الذين نظموا الحملة التنصل من مسؤوليتهم عما جرى، ونفى رئيس مجلس النواب، فى لقاء له مع صاحب القناة التى تبث برنامج إبراهيم عيسى، أن يكون المجلس قد طلب وقف البرنامج أو إغلاق القناة، مؤكداً أن المجلس يحترم الدستور الذى يحظر الرقابة على الصحف وأجهزة الإعلام، أو مصادرتها أو تعطيلها أو إلغاءها، كما يحظر توقيع العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر والعلانية.. وظن الجميع أن المشكلة قد حلت، واعتبروا أن ما قيل تحت القبة حول ارتكاب «هذا الإعلامى» جريمة المساس بالأمن القومى التى تجيز للسلطة الإدارية، طبقاً لنظرية الضرورة، أن تضرب عرض الحائط بنصوص الدستور - هو مجرد تخليص حق من المجلس، إلى أن فوجئوا بوقف البرنامج، فتأكد لهم أن المستشار «مجدى العجاتى» كان جاداً حين طمأن النواب بأن الحكومة ستتخذ ما سيلقى قبولاً منهم!.

وألف رحمة ونور على روح الزعيم سعد باشا زغلول الذى كانت آخر كلماته: مفيش فايدة يا صفية!.

 

التعليقات