خامس.. ضحية «الصوت الواحد»

(1)

كان ضحية من ضحايا ضيق الأفق والاستبداد، كان مختلفا في وقت كان يراد أن تكون الأصوات كلها صوتا واحدا، يسبح بالاشتراكية ويمجد الزعيم، الأنظمة الشمولية القمعية دائما لديها مبررات، وأهمها أن الظروف غير مواتية، والوقت لا يحتمل التجريب والتغريب والتشتيت والاختلاف، الزمن زمن حرب وصوت خارمس ورفاقه يشتت إجماع الأمة، بالرغم أن كتاباتهم لم تكن تحمل نقدا ولا معارضة لنظام ستالين القمعي، إلا أنها لم تكن متوافقة مع المعايير التي وضعها رجال الحكم الذين قرروا أن أي كلمات غير مفهومة مضرة، فهى تشق عصا الجماعة، وعلى صاحبها أن يتأدب ليعود إلى رشده، فليكن النفي مصيره والسجن مأواه والموت قدره ونصيبه... المهم أن يعزل ويبعد عن العامة... التفاحة المعطوبة يمتد أثرها.

(2)

مجنون من مجانين الكلمة، الذين يشكلون من طينها تماثيل ترهب الطغاة بعيونها المليئة بالأسرار، المستبدون دائما يخافون الغامض ويرهبون المجهول، في جوف التمثال حية قد تلدغهم، يأبون أن تمر عليهم الكلمات السحرية، فربما تحولت إلى حبل يلتف حول أعناقهم ويشنقهم. «خارمس» واحد من هؤلاء السحرة الذين يلقون بحبال الكلمات، فتتحول إلى ثعابين تلتهم الأكاذيب العادية. اختار العبث ليهدم قلاع الثوابت الحصينة، أبت طبيعته المبدعة التأطر بالمعايير الرسمية التي وضعت للأدباء للتقيد بها، وعبر عن ذلك بوضوح: «لا تعنيني إلا الترهات وما لا ينطوي على أي معنى عملي، وتعنيني الحياة بمظهرها اللامعقول، ولا أطيق كلمات مثل: البطولة والتحمس والاستبسال والجسارة، والأخلاق، والطهارة، والمداهنة، والمجازفة، لكنني أفهم تماما وأحترم: الدهشة والإعجاب والإلهام واليأس والانفعال وضبط النفس والانحلال والعفة، والكآبة والحزن والفرح والضحك».

(3)

ولد خارمس، وهو الاسم المستعار لدانيل يوفاتشيف، في بطرسبوج عام 1905، عاش ومات في لينينجراد، أسس مع رفاقه من الكتاب التجريبيين عام 1927 حركة أوبريو الأدبية اختصار «اتحاد الفن الحقيقي»، وتعتبر هذه الحركة رائدة في أدب العبث واللامعقول، في أعوام الديكتاتور ستالين، لم يكن التجريب معترفا به، ولكن كان يصنف باعتباره عملا سياسيا معاديا للثورة. حدث الصدام مع السلطة التي اتهمت أعضاء الحركة بصرف انتباه الناس عن الاشتراكية، واعتقل خارمس عام 1931 مع رفاقه في حركة أوبريو، التي كانت بمثابة عدو للواقعية الاشتراكية التي سادت حينذاك، ونفي إلى مدينة كورسك، بتهمة التجريب الفني والإبداع خارج المنظومة الرسمية. بعد عامين تم إطلاق سراح خارمس، وعمل في وظيفة في المؤسسات الحكومية تحت المراقبة. عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، تم اعتقاله مرة أخرى نهاية 1941، بتهمة «إشاعة روح التخاذل»، في السجن كان الطعام شحيحا، وربما وجد السجان أنه لا يستحق كسرة خبز، وانتهى الأمر بوفاته جوعا وبردا في السجن في عام 1942.

(4)

كتابات خارمس لا تخاطب المنطق ولا العقل المرتب الذي اعتاد على نسق معين للمعاني، كتاباته تصدم العقل بعبثية السرد وتشظي المعاني، ينسج من الكلمات سردية جديدة على شاكله اللوحات الفنية، التي توحي بعشرات المعاني والتأويلات وكلها صحيحة، الحقيقة ليس لها مكان في نصوص خارمس فلا تبحث عنها بين كلماته... ابحث بداخلك عن صداها... وإليكم بعضا من كتاباته:

العجائز المتساقطات من شدة الفضول

سقطت إحدى العجائز من النافذة فتكسرت. ومدت عجوز أخرى عنقها من النافذة، ونظرت إلى الأسفل على العجوز المكسرة، بيد أنها ولشدة الفضول هوت من النافذة، وسقطت وتكسرت. ومن ثم سقطت من النافذة عجوز ثالثة، ومن بعد رابعة، وخامسة. وبعد أن سقطت العجوز السادسة، انتابني شعور بالسأم من النظر عليهن، وذهبت إلى سوق ماليتسف، حيث أهديت أحد العميان شلالا محيوكا.

***

نام كالوقين ورأى في المنام، كأنه يجلس وسط دغل، وبالقرب من الدغل شرطي يمشي.

هب كالوقين مستيقظاً، حك فمه واستغرق في النوم مرة أخرى، ومرة أخرى رأى حلماً، كأنه يمشي بقرب دغل وشرطي يجلس مختبئاً وسط الدغل. هب كالوقين من نومه، ووضع صحيفة تحت رأسه، حتى يحمي الوسادة من لعابه، واستسلم للنوم مرة أخرى، ومرة أخرى رأى حلماً، كأنما هو يجلس في دغل وبقرب الدغل شرطي يمشي. استيقظ كالوقين، قلب الصحيفة، استلقى ونام مرة أخرى. نام ورأى حلماً مرة أخرى، كأنما هو يمشي بالقرب من دغل، وشرطي يختبئ وسط الدغل. وهنا هب كالوقين من نومه، وقرر ألا ينام مجدداً، ولكنه ما لبث أن استلقى نائماً، ورأى حلماً، كأنما هو يجلس وراء شرطي، وبالقرب منهما الدغل يمشي.

صرخ كالوقين وتلوى في الفراش، إلا أن سانحة الاستيقاظ كانت قد فاتت.

استغرق كالوقين في النوم لأربعة أيام وأربع ليال متتالية واستيقظ في اليوم الخامس هزيلاً إلى درجة أن حذاءه احتاج إلى الشد بحبل حتى لا ينزلق من قدمه. في المخبز، حيث كان كالوقين يحظى بشراء خبز القمح الفاخر دائماً، لم يتعرف عليه أحد، فدسوا له خبز الردة. أما لجنة الرقابة الصحية فعندما رأت كالوقين خلال كشفها على الشقق السكنية اعتبرته ضارا بالصحة وغير نافع لأي شيء، وحررت محضراً بإلقاء كالوقين مع الزبالة. تم طي كالوقين من وسطه والتخلص منه، كالزبالة.

****

بهكذا ضخامة يباع خيار بالمتاجر هذه الأيام!

حضر كوراتيقين لزيارة تيكاكييف ولم يجده بالمنزل.

وفي الأثناء كان تيكاكييف في بقالة يشتري سكراً ولحماً وخيارًا.

تسكع كوراتيقين قرب باب منزل تيكاكييف، وحين أوشك أن يترك رسالة لتيكاكييف،

التفت فجأة ورأى تيكاكييف قادماً وهو يحمل حقيبة تسوق قماشية.

عندها صاح كوراتيقين لتيكاكييف: ها أنذا في انتظارك منذ ساعة كاملة!

أجاب تيكاكييف:غير صحيح، فقد مضت خمس وعشرون دقيقة فقط على مغادرتي المنزل.

قال كوراتيقين: لا أفهم شيئاً مما تقول، لكن أعرف بأنني أقف هنا منذ ساعة كاملة.

تيكاكييف: لا تكذب! الكذب مشين.

كوراتيقين: يا لطيف ألطف! اجتهد قليلاً في اختيار ألفاظك.

بدأ تيكاكيف بالكلام: أنا أعتبر .....، ولكن قاطعه كوراتيقين، قائلاً: إذا كنت تعتبر ....

ولكن في نفس اللحظة قاطع تيكاكييف كوراتيقين، متسائلاً: هل أنت واع؟!

هذه الكلمات هيجت غضب كوراتيقين، لدرجة أنه سد أحد منخريه بإصبع وتمخط بالمنخر الآخر في وجه تيكاكييف.

عندها قام تيكاكييف بسحب أكبر قطعة خيار من الحقيبة وضرب بها كوراتيقين على رأسه.

فأمسك كوراتيقين رأسه بين يديه، وسقط ميتاً.

(5)

هل وجدتم في كتابات خارمس خطرا؟؟.. هل كانت تهدد النظام؟؟ هل كانت تدعو للتخاذل؟؟... ربما وجدتموها غرائبية وعجيبة، أسلوب جديد لم يكن معترفا به في زمنه، تعبير بالكلمات أشبه بلوحات سيلفادرو دالي السيريالية... لكن كسر الأنماط المعتادة في الكتابة يصبح تهمة تحاصر الكتاب المختلفين في أزمنة القهر، حين يصنف النظام كلماتهم على أنها أسلحة معادية، يجب مصادرتها، ويصبح هؤلاء الكتاب خطرا على الوطن والمواطن، والمطلوب إبعادهم.. التفاحة المعطوبة تفسد الصندوق كله.. الأنظمة القمعية لا تتعلم من التاريخ...الكلمات تبقى وهم يذهبون إلى مزبلة التاريخ.

التعليقات