الأرض

يتعجّب المرء وهو يقرأ ويُحلل ظهور كلمة «مصر» فى القرآن الكريم، ذلك التشريف الذى لم تحظَ به دولة، انطلاقاً من أن هذا البلد كان دولة قبل الزمان بزمان. ورود كلمة مصر فى القرآن الكريم جعل ذكرها عبادة، النبى صلى الله عليه وسلم، كان يقول فى معرض الحديث عن ثواب تلاوة القرآن: (لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). ظهر اسم مصر بصورة مباشرة فى القرآن الكريم خمس مرات، وورد بالكنية أو بالوصف مرات عديدة.

الكنية الأكثر ظهوراً فى وصف مصر داخل القرآن الكريم تتحدّد فى مفردة «الأرض». فعندما حكى القرآن قصة فرعون مصر وصفه بقوله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ»، وعندما أراد إنقاذ المستضعفين من بنى إسرائيل، وصف مصر أيضاً بـ«الأرض»، فى قوله تعالى: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ»، وعندما طلب نبى الله يوسف من العزيز أن يجعله مسئولاً عن خزائن مصر، قال بنص القرآن: «اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ». المتأمل لهذه الآيات الكريمة يجد أن القرآن كان يستخدم مفردتى مصر والأرض بصيغة الترادف، وكأن مصر هى الأرض، والأرض هى مصر، وقد تجد فى ذلك تفسيراً لذلك الرباط الوثيق بين أهل هذا البلد والأرض. فالأرض بالنسبة للمصرى تعنى كل شىء، قد يقول قائل إن شأن المصرى فى هذا السياق هو شأن كل إنسان ينتمى إلى بلد معين، يُحب أرضه ووطنه، وهو كلام صحيح بالطبع، لكن ذلك لا ينفى أن مسألة الأرض مسألة شديدة الحرج بالنسبة لكل من عاش فوق تراب المحروسة، وليس أدل على ذلك من هذا الوصف القرآنى البارع لمصر بكلمة «الأرض».

ربما كان التاريخ الزراعى للمصريين سبباً من أسباب تعلقهم بالأرض. ومن المعلوم أن علاقة الفلاح المصرى بالمكان والزمان علاقة أزلية أبدية، والعجيب أنه يربط بين الأرض والزمن بشكل فريد من نوعه، فكل موسم يجعل الأرض تحبل بخير جديد يحفظه الفلاح جيّداً، وهو ربط لا يقل عجباً عن العلاقة التى تصل بين الإنسان المصرى والزمان. استرجع على سبيل المثال مجموعة الأمثال التى تصف أحوال المصرى مع تقلب الشروط القبطية «كيهك.. صباحك مشاك».. «طوبة تخلى الصبية كركوبة». إنها خلطة عجيبة ما بين الإنسان والزمان والمكان لا يفهمها إلا من عاش فى هذا البلد، وقاعدة هذه الخلطة دائماً هى الأرض، فالإنسان زائل، والزمان متقلب ومتغير، لكن الأرض ثابتة راسخة، لا يستطيع أحد أن يُزحزحها من جغرافية هذا البلد، وليس فى مقدور قوة -مهما كانت- أن تُزحزح الإنسان من فوقها.

المصرى طيب ومتسامح، لكنه ينقلب إلى آخر غضوب عندما يمس أحد أرضه، الأرض بالنسبة للمصرى «عرض».. المصرى صبور، إلا فى مسألة الأرض، تشهد على ذلك الحالة التى عاشها المصريون بعد أن احتلت الدولة العبرية أرض سيناء عام 1967، سنوات طويلة عاشها المصريون حينذاك يجلدون ذاتهم، ويسخرون من أنفسهم، ويُعبّرون عن حسرتهم بالغناء تارة وبالشعر تارة، وبالبكاء تارة، حتى تمكنوا من استرداد ما سُلب منهم فى حرب أكتوبر 1973.. إنها الأرض.. وما أدراك ما الأرض بالنسبة لهذا الشعب.

التعليقات