لنبدأ بالأشياء الصغيرة

مشيت في شوارع حي من أحياء القاهرة العشوائية. يا الهي .. !! كل هذا الفقر .. وهذه القذارة. أطفال في عرض الطريق بوجوه اختفت منها مسحة جمال تحت طبقات من الأتربة وأسراب الذباب. شعر بعضهم أصفر بالوراثة ربما أو بضربات الشمس غالبا. رجال جالسين على كراسي سحبوها من داخل المقاهي إلى حوض الشارع. كلهم غاضبون. عرفت هذا من نبرة نقاشاتهم والشر المكبوت في عيونهم والعصبية الغالبة على تصرفاتهم. تصورت أن أكثرهم لا يعملون ولعلهم تجاوزوا مرحلة الاكتراث. أما النساء عابرات الشارع فيمشين بنشاط ومظهرهن أحسن كثيرا من مظهر الرجال والأطفال. تصورت أن نسبة كبيرة منهن يعملن ففي مشيتهن ثقة بالنفس وفي نظرتهن تعال وأنفة. علمت من الخبراء فيما بعد أن تصوراتي عن من رأيت من الرجال والنساء والأطفال لم تكن بعيدة عن واقع الحال في الحي.

تشابهت الشوارع. شارع يحملني ليلقي بي في شارع لا يختلف عنه. المقاهي تحتل مساحات كبيرة من شارع يختنق ضيقا وازدحاما وعربات اليوسفي والموز تقف كالحدود الفاصلة بينها. أصحاب العربات احتلوا كراسي المقاهي وبرفقتهم حميرهم. رأيت أكثر من حمار يتسلل برأسه وسط الرؤوس المتلاحمة حول المائدة النحاسية يطل على أكواب الشاي وكأنه يستمع ويتدبر. لا أحد تململ أو نهر الحمار وصاحبه أو انتبه إلى الصراخ المتبادل منذ مدة بين سائقي سيارتين متواجهتين في مجرى الشارع. كل سائق يريد من السائق الآخر أن يعود بظهره، كلاهما غير مبال لحقيقة أن عربات وسيارات أخرى تقف وراءهما. الشتائم وأنواع السباب المختلفة والسخريات اللاذعة تتطاير في أجواء الشارع. المشاة لا يتوقفون فالمرور بين العربات والسيارات أسلم وأسرع والأطفال يلعبون ويتقافزون والحمير غير معنية رغم أنها والعربات المربوطة بها لو تحركت لانحلت الأزمة.

وقفت وسط المشهد أتخيل الحال لو شب حريق أو وقعت جريمة أو قررت حامل أن تلد. افترضت درجة عالية من الكفاءة جعلت أجهزة الحريق أو الشرطة أو الإسعاف تتحرك وتصل إلى مداخل الحي. أعرف أن بعض هذه الأجهزة حديثة ومتطورة ومجهزة بإمكانات بالغة التقدم وتصورت أن القائمين عليها من ذوي النوايا الطيبة والتدريب المناسب. ساعتها تذكرت أستاذ أمريكي علمني بعض نظريات التنمية السياسية. كان يقول في نهاية كل محاضرة " إذا دخل التقدم والتخلف في خصومة عنيدة فالمستقبل مرشح لتخلف أشد وأطول". سألت الصديق وائل جمال الخبير الاقتصادي الكبير عن عدد العشوائيات فرد بإحصائية رسمية تقدر أن العدد يصل إلى 339 منطقة عشوائية في كافة المحافظات تحتفظ العاصمة لنفسها بنصيب الأسد أي بحوالي 47 %. زدت اقتناعا بعد أن قرأت التفاصيل المرعبة وبعد أن رأيت ما رأيت في عشوائية واحدة بأن الحل، إن وجد، فهو بعيد.
***
جمعتنا الجلسة الدورية التي تعودنا على امتداد سنوات أن نناقش فيها المشكلات بدون اعداد مسبق. رحل عنا من رحل بدون استئذان أو اعتذار وأكثرهم كان على خلق عظيم، وتقاعد من أحس بغدر الزمن وغادرنا من قضى معنا سنوات عديدة قبل أن يكتشف أننا، حسب خطبته للوداع، قضينا العمر نحاول حل مشكلات لم يتطرق إليها أو كان يقدر على حلها كارل ماركس أو جون ستيوارت ميل أو من سبقهما مثل آدم سميث أو جاء بعدهما مثل ستيجلتز وبيكيتي. كنا نناقش تطورات القضية الفلسطينية والنزاعات العربية العربية وسباقات التسلح النووي وأشهر قضايا الحب والغرام وأزمة المرور في القاهرة والاسكندرية والتحرش في كافة صوره، تحرش رجال بنساء وتحرش حكومة بشعب. لم نحل مشكلة واحدة. كان عددنا يتناقص بينما المشكلات تزداد ضراوة وعددا.
جاء يوم انبرى واحد منا يقول "يا أخوة دعونا نعترف أن المشكلات تجاوزت قدراتنا على متابعتها فما البال بحلها. اسمحوا لي أن أصارحكم القول إن انغماسنا في تحليل مشكلات ضخمة ومحاولة حلها أصابني بحالة تنميل عقلي. قضينا العمر، أو أغلبه، ونحن نغالب ظلم الاستعمار وقمع المستبدين وفساد الحكام، حكام الشرق والغرب على حد سواء. انتهينا إلى لا حلول. انظروا حولكم سترون الفقر وقد تفاقم والفساد وقد تعاظم والقمع وقد اشتد والظلم وقد تمكن وهيمن."
***
قررنا التوقف عن بذل الجهد في محاولاتنا المتكررة لحل المشكلات العظمي. وجدنا الإلهام في صورة الطفل السوري الذي قذفت به الأمواج فألقته على شاطئ في غرب تركيا. كنا قبلها قد رأينا عشرات الصور لقوارب تغرق بركابها من المهاجرين واللاجئين. تأثرنا وغضبنا ولكن بدرجات أقل من التأثير والغضب الذي خلفته صورة الطفل الغريق ذي الرداء الأحمر. انفعلنا بالصورة وانفعل العالم حتى أن شعوبا أوروبية استحت فاستعدت لاستقبال مهاجرين جدد. فجأة نشط السعي لإيجاد حلول لمشكلة الغرق. ألهمتنا الصورة إلى تبني فكرة أن يهتم كل منا بقضية فرد واحد والتخلي عن محاولة حل القضايا الكبيرة. نعرف الآن وبالوثائق وشهادة الرئيس الغريب الشأن دونالد ترامب أن العولمة كشفت عن الفقر المدقع الذي تسببت فيه، نعرف أيضا أن اليمن كالصومال مهددتان بالجماعة. تعالوا نركز كل منا على حدة على طفل أو آخر من هؤلاء الأطفال المهددين بالموت جوعا، أو على طفل يصارع السرطان، أو على شاب بعينه من المعتقلين ظلما في سجن عربي، أو امرأة تعرضت لتحرش أو اغتصاب، أو فلسطيني هدم الاسرائيليون بيته وحرقوا زيتونته، أو سوري لاجئ يسعى لعمل شريف. نركز على فرد قضيته في الحقيقة نموذج مصغر لقضية عظمى. أظن أن حل قضية فرد ثم آخر يمكن أن يمهد لحل القضية الأكبر. لماذا لا نجرب؟
***
تعلمنا في الصغر أن الرقم "واحد" كثيرا ما يكون أهم من الرقم مليون.

قبلت الدعوة لحضور اجتماع هام في مكتب يقع في حي من أحياء القاهرة العشوائية. حذرني السائق من أنه قد لا يتمكن من التوغل عميقا في شوارع الحي ومن ثم سوف يتعين أن أسير على القدمين نحو مقر الاجتماع.
 

التعليقات