الحب وخرافة المواطن الصالح

احتفالاً بالفالنتين، قررت أن أعيد قراءة تجربة وكتاب بوسكاليا عن الحب، «ليو بوسكاليا» من أصل إيطالى يمتلك دفء وحرارة ونزق وجموح الإيطاليين، لذلك لم يفهمه المجتمع الأمريكى فى طفولته، وتعامل مع أسرته بعنصرية، وعندما كان يدرّس فى إحدى الجامعات الأمريكية انتحرت إحدى طالباته، ولم يعرف هو لماذا انتحرت؟ واستبد به حزن شديد، وأيقن أنه مخطئ فى حقها لأنه لم يحاول أن يفهمها ويقدر كم هى محتاجة إلى الحب، وفى مجتمع مثل المجتمع الأمريكى يلتقى فيه الناس ولا يتلاقون، كان على بوسكاليا أن يستدعى مخزون التواصل الإيطالى الحميم، ويعطى كورساً أو برنامجاً دراسياً عن الحب، وبالطبع اتهمه زملاؤه من الأساتذة بالجنون والشذوذ والتفاهة، ولكنه واصل طريقه ليصبح أشهر أستاذ فى علم الحب!، يؤكد كتاب بوسكاليا أن الحب سلوك مكتسب، وهو ما يناقض البديهيات التى تربينا عليها، وهى أن الحب سلوك فطرى يقترب من الوظائف البيولوجية، مثل الأكل والتنفس، وأكد أيضاً أن الحب مشاركة وليس عطاءً بلا حدود، فهو لا يعيش فى يوتوبيا مزيفة، وإنما يقرأ واقعاً حياً نابضاً، حاول معه أن يحذرنا من أننا بالفعل نعيش مع بعضنا بعضاً، ولكننا جميعاً نموت من الوحدة.

البداية لكسر هذه الوحدة الباردة أن نكن أنفسنا، فقديماً رفع شعار «اعرف نفسك»، ونحن حالياً نرفع شعار «كن نفسك»، ولا تندهش عزيزى القارئ، وتتساءل: «ما أنا نفسى أمال أنا مين؟»، والإجابة للأسف أنت لست نفسك، ولكنك النموذج الذى يريده المجتمع لك فى أثناء صناعته لخرافة المواطن الصالح، فأثناء طفولتك مثلاً وحين تطلب منك مُدرسة الرسم أن ترسم شجرة، فأنت تحصل على إعجابها وعلى درجتها النهائية حين ترسم شجرتها هى، وليست شجرتك أنت، وتظل طوال حياتك ترسم شجرات الآخرين وتسير فى طرقهم المعبّدة، وتسكن فى مساكن أفكارهم المعلّبة سابقة التجهيز، فالبداية الصحيحة والسليمة هى أن تهرب وترسم شجرتك أنت، وتضحك حين تريد أن تضحك وتبكى حين يخنقك البكاء، وفى هذا المعنى يكتب ليو بوسكاليا «لا حاجة بنا لأن نخشى أن نلمس، وأن نشعر، وأن نبدى الانفعال، إن أيسر شىء فى الدنيا هو أن تكون «كما أنت»، وإن أشق شىء تكونه هو ما يريدك الآخرون أن تكونه»، الحب يحتاج إلى الحرية، والطيور لا تغرد أبداً فى الكهوف، والمجتمعات الديكتاتورية تغتال الحب، والمواطن المقموع يجهل الحب، ونحن فى مجتمعاتنا نمثل الحب ولا نحياه، ونرتدى قناعاً أثناء ممارسته ونزيّف مشاعرنا لنرضى الآخرين ونتكيف مع السائد، ونظل ننتظر الحب ولكننا فى الحقيقة ننتظر «جودو» البطل الغائب فى مسرحية العبث الشهيرة، ولا نعرف أن الحب ليس للتفكر والتنظير، ولكنه للخوض فيه والممارسة من خلاله، والحب شىء مختلف تماماً عن الاحتياج ويتم تعلمه منذ الطفولة، فمثلاً إذا كانت الأسرة من تلك الأسر التى تجاهر بعواطفها فسوف يتم تدعيم الطفل باستجابة إيجابية عندما يعبر عن هذا، فيقفز الطفل إلى حضن أبيه ويزرع قبلة على فمه، قبلة خصبة حافلة بالحيوية، فيرد الأب عليها بود وفرح، وهنا تبدأ أول رسالة تعليمية عن الحب، أما إذا حمل الأب الطفل بعيداً عنه ناهراً إياه قائلاً:

- الرجال الكبار لا يحضن بعضهم بعضاً!.

بالطبع تؤدى مثل تلك الرسالة السابقة إلى خلق شخص من الممكن أن يكون مقبولاً اجتماعياً، لكنه وللأسف منبوذ وأخرس عاطفياً، وهذا القبول الاجتماعى المزعوم الذى يسعى إليه الجميع يؤكد أن الحب صناعة اجتماعية تشكلها للأسف الثقافة السائدة، وليست الذات الصادقة.

التعليقات