ما بعد «تجريف السياسة»

على الذين لا يدركون خطورة «تجريف السياسة» عليهم أن يقرأوا جيدا صورة الحشود في جنازة الشيخ عمر عبدالرحمن.

وعلى الذين لا يدركون خطورة تكريس الثقافة الأبوية «البطرياركية» لحكم الفرد، والزعيم الملهم، والأب الروحى، عليه أن يراجع مشهد الحشود في جنازة عمر عبدالرحمن. هي الثقافة ذاتها، لا يغرنكم اختلاف القبعات أو الرايات.. هي الثقافة ذاتها.

***

كلنا نعرف قصة الشيخ وجماعته، وكيف كان ما كان وقت أن قرر السادات / الرئيس «تجريف السياسة» في جامعات السبعينيات من القرن الماضي

 

قد تكون هي حرمة الموت التي يعرفها المصريون منذ عهد الفراعنة. وقد يكون هناك من أراد للجنازة أن تكون إذكاءً لعداوة «مطلوبة» مع الغرب، أو بالأحرى لرياح تغيير أو «حرية» لطالما أتت مع خطابه.

قد يكون هناك ربما من قصار النظر من أرادها مغازلة لمشاعر البسطاء، وتأكيدا على مقولة أن «الغرب قتل شيخكم» حتى يرفض هؤلاء البسطاء كل ما يأتي من هذا الغرب؛ جملة وتفصيلا. بدايةً من دعوات الحرية والديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وليست نهايةً حتى بعقل يقوم على «التفكير النقدي». فكل فكر «نقدي» خطر ومرفوض. إذ أن الأسهل قيادةً وانقيادًا هم أولئك الذين يؤمنون بحرمة الخروج على الحاكم، وبنظرية «البيعة الواجبة للحاكم المتغلب» أما ما يرتبط بالضرورة مع هذا الفكر من نظريات مبتسرة عن «دار السلم ودار الحرب»، فلا تعنينا كثيرا «طالما كانت النيران بعيدة عن طرف الثوب». ولكن هل النيران بعيدة حقا عن طرف الثوب؟

***

كل من يعرف قصة الشيخ الراحل، وجماعته، وفتاواه التي أسست لكثير مما نعرف، ويعرف العالم كله اليوم، يعرف أنها بدأت في جامعات السبعينيات من القرن الماضي، عندما قرر الرئيس الراحل أنور السادات «تجفيف السياسة» في الجامعات منزعجا من «الأولاد الذين يجادلون فيما لا يفهمون». لم يدرك الرجل يومها درس الفيزياء الأول: أن «الطاقة لا تفنى».. فكانت النتيجة الطبيعية، التي عملت على تحفيزها مؤسسات الدولة «الأمنية» في حينه أن ظهرت «الجماعات البديلة».. ثم كان ما كان من قصة طويلة معقدة تداخلت فيها اعتبارات دولية وإقليمية، وتشابكت فيها مشاهد أُرِيد لبعضها أن تكون تمهيدا «أفغانيا» لنهاية الحرب الباردة، وأُرِيد للأخرى أن تكون «خليجيا» نهاية لحقبة المد القومي الناصري. وفي الحالتين تغيرت على الخرائط (كما دوليا فإقليميا) مراكز الثقل والتأثير، بما يعنيه ذلك من اتجاهات «لرياح» الفكر، وأنماط السلوك والثقافة.

*** 

الذين لا يقرأون التاريخ ربما لا يدركون العلاقة بين غياب السياسة «الحقيقية الحية» ونمو «الجماعات المنغلقة المتطرفة»، أو على الأقل خلق المناخ الملائم لهذا النمو. كما قد لا يدركون أيضا أنها من ناحية أخرى نتاج موضوعي لثقافة «أبوية» بطريركية تقوم على حكم الفرد / الزعيم الملهم / الأب الروحي. وأن ثقافتها، كأي ثقافة آمرة فوقية، تكره التفكير النقدي، ولا تعرف غير السمع والطاعة، وتنفيذ الأوامر. لا فرق هنا بين ملك في قصره، أو قائد في جيشه، أو أمير في جماعته؛ يجلس في أحد كهوف قندهار ليفتي بالقتل فيجد آلاف «المطيعين» على استعداد لارتداء الأحزمة الانتحارية الناسفة. هي الثقافة ذاتها. نعمل على تربيتها في بيوتنا، ومعاهدنا التعليمية، وخطابنا الرئاسي الفوقي بـ «محدش يتكلم فى الموضوع ده تانى».. ثم نشكو. 

***

 

لا دولة قوية بلا معارضة قوية.. ولا نظام سياسيا صحيا دون حياة سياسية حقيقية
«تجريف السياسة»؛ مصطلحٌ عبقري نحته الأستاذ محمد حسنين هيكل (الذى تحل ذكراه هذه الأيام) ليصف به ما فعلته سنوات «السلطة المطلقة» بالسياسة في مصر.

هل هناك ما تغير؟

أخشى أن الإجابة إذا كانت (بنعم) فهي لن تعني غير مزيد من التجريف «الممنهج»، الذي يغيب قطعا عن القائمين به فداحة الثمن.

«لا دولة قوية بلا معارضة قوية.. ولا نظام سياسيا صحيا دون حياة سياسية حقيقية» حقائق لا جدال فيها، فهل لدينا شيء من ذلك؟ أو بالأحرى هل رغبنا، أو حاولنا، أو سمحنا بأن يكون لدينا شيء من ذلك؟

يكفي لغير المتأكدين من الإجابة أن يعودوا إلى القصة التي باتت معروفة لتكوين المجلس النيابي، الذي تعرفه النظم السياسية كبوتقة للنشاط السياسي في المجتمع. ولمن نسى أعود به إلى ما كنت قد أشرت إليه في حينه من وقائع كان قد رواها لنا د. نور الدين فرحات ومحمد رءوف غنيم. كما كان قد حكى لنا تفاصيلها في مقال مهم بجريدة «الأهرام» المهندس يحيى حسين عبدالهادي (وهو بالمناسبة من أبناء القوات المسلحة) عن الإجهاض الأمني «والدولتي» لمحاولة إيجاد برلمان حقيقي. يحكي لنا في مقاله كيف تواصل في أواخر ٢٠١٤ عدد من المهمومين بمصر لاستطلاع الرأي فيما ينبغى عمله بشأن مجلس النواب المقبل.. من بينهم: بهاء طاهر وجلال أمين وعبدالجليل مصطفى ومجدى يعقوب وجورج اسحق وحنا جريس والراحل سيد حجاب (كاتب ديباجة الدستور الجديد). لا أحد منهم كان راغبا في الترشح، وإنما كان هَمُهُم المشترك هو وضع آليات تضمن ترشيح عدد من الأكفاء لمجلس النواب على أساس الجدارة والتنوع، وتتكون منهم (نواةٌ قِيَمِيَة) تقدم نموذجا قابلا للتكرار والتوسع في البرلمانات المقبلة وتمحو بالتدريج الصورة النمطية المبتذلة التي تأتي بها السلطة عادة لنواب البرلمان.. ولتحقيق ذلك وُضِعت معايير صارمة وتم تشكيل لجنة محايدة تختار المرشحين بناء على هذه المعايير ولا يَحق لأعضائها الترشح.. وسُمِى هذا الكيانُ (صحوة مصر).

ثم يُلخص المهندس عبدالهادي تفاصيل كنا قد سمعنا بعضها من أصحاب التجربة أنفسهم. من أن (صحوة مصر) لم تطمح لتكوين أغلبية أو تشكيل حكومة .. بل لم تَسْعَ لتكوين تكتل مُعارض وإنما مجرد نواة صغيرة من أشخاص لديهم القدرة على أداء الدور الرقابي والتشريعي للنائب… ومع ذلك يبدو أن هناك من لم يعجبه ما في الأمر من «سياسة»، أو ما قد يأتي به للبرلمان من «سياسة وسياسيين» مفضلا أن يكون لدينا مجلس مطيع خالٍ من أي صوت مختلف (أو بالأحرى «خاليا من السياسة»).. بدأت ضغوط (الأجهزة) على المنضمين لقوائم صحوة مصر بالترهيب مع البعض والترغيب مع آخرين للانضمام إلى قائمة بذاتها قيل إنها تمثل (الدولة) وإنها تموت (فى حُب مصر) وكأن الآخرين يكرهونها(!).. ضغوط حقيقية وليست شائعات، وإذا كانت دواعي عدم البَوْح بأسماء من رضخوا لهذه الضغوط مفهومة، (والكلام مازال للمهندس يحيى حسين)، فإن رجلا بقامة اللواء أ.ح / نجيب عبدالسلام قائد الحرس الجمهوري الأسبق أزال الحَرَجَ بتصريحه يومها للمصري اليوم بأنه تعرض لهذه الضغوط التي تمثلت في رسائل شفهية واتصالات تليفونية لإجباره على ترك صحوة مصر.. في الوقت نفسه كان مشهد التناحُر للانضمام إلى قائمة (الدولة) صورة طبق الأصل من مشهد كنا ألفناه للمتدافعين للترشيح تحت لافتة الحزب الوطني وقتَ أن كان ترشيحُ الحزب المنحل لشخص ما يضمنُ له النجاح حتى بدون انتخابات.. انتهى ما حكاه المهندس عبدالهادي في «الأهرام». ونعرف جميعًا ما جرى بعد ذلك.

المصريون الذين تغنينا بطوابيرهم الطويلة على أبواب مراكز القتراع في انتخابات ٢٠١١، أدركوا  بحسهم الفطري أن لا حاجة للذهاب إلي الصناديق هذه المرة. ثم أدرك الطيبون والمتشككون ما بتنا نعرفه جميعا من أن «القائمين على الأمر» ليس لديهم استعداد لقبول صوت واحد يغرد خارج السرب، رغم أنه واقعيا لن يؤثر وسط ٥٩٦ عضوا؛ نعرف ويعرفون كيف جاءوا. فكل الأسلحة «الأمنية» موجودة لردع من يتصور أن بإمكانه أن يلعب دور «البرلماني الحقيقي»، بدايةً من حملات التشهير الموجهة (هيثم الحريري، وأنور السادات، وخالد يوسف مثالا) وليس نهاية بإسقاط العضوية، عملا بحكمة الريفيين التقليدية في «ضرب المربوط.. ليخاف السائب».

ليس بعيدا عن ذلك طبعا، ما يجري مع الدكتور محمد البرادعي (الذى كان نائبا لرئيس جمهورية الثلاثين من يونيو)، كما ليس بعيدا عن ذلك أيضا ذلك المشهد العبثي الحادث مع الدكتور عمرو الشوبكي، الذى وبالرغم من أنه كان من القريبين أو المشاركين لبعض من الوقت فى حملة المشير عبدالفتاح السيسي الرئاسية، إلا أن من الواضح أن هناك من أقلقه أن «باحث العلوم السياسية» يفهم في السياسة، ويبدو من كتاباته أنه «يفكر». والصفتان مكروهتان بطبيعة الحال عند من لا يريد سياسة أو سياسيين. فكان أن جرى تجاهل أحكام نهائية من محكمة النقض، تفتح له الباب لعضوية البرلمان. وكان أن جرى ذلك التجاهل، وتلك المماطلة بالمخالفة لأحكام الدستور. ولكن هل هناك من يدافع عن الدستور، إذا غابت «السياسة»؟

***

 

كل الأسلحة «الأمنية والإعلامية» موجودة لردع من يتصور أن بإمكانه أن يشارك، أو يلعب دورا سياسيا حقيقيا
لا تقتصر الرغبة في «تجفيف السياسة» على «تعقيم» البرلمان، أو تشويه السياسيين لإخراجهم من الملعب، بل تمتد إلى الإعلام، فما لم يتم (واقعيا) تأميمه جرى تقليم أظافره «إلا من ما زال قابضا على الجمر». كما يمتد تأثيرها بالضرورة إلى الحياة الحزبية (مدرسة السياسة في المجتمعات الديموقراطية). فكل دارس للحياة الحزبية المعاصرة في مصر، منذ أنشأ السادات المنابر الثلاثة يعرف أن السلطة فى مصر لم تكن يوما ترغب في وجود أحزاب قوية. وحينما تفاجأ بوجود مثل هذه الأحزاب سرعان ما تعمل على إضعافها أو إعاقة عملها أو تفجيرها من الداخل (اسألوا صفوت الشريف). ففضلا عن الحرفة الأمنية المعروفة في إنشاء أحزاب ورقية لاستكمال الديكور ليس إلا، بيننا من مازال يذكر ما جرى أيام مبارك مع أحزاب الكرامة والوسط والغد. وما يحدث الآن مع أحزاب الدستور والمصريين الأحرار.

الخلاصة أن السلطة لا تريد معارضة، لأنها لا تعرف قيمة المعارضة لصحة النظام السياسي. ولأنها لا تريد معارضة، فهي بالتالي لا تريد بجوارها أحزابًا قوية. لا أحد في السلطة يريد سياسيين أو يريد سياسة.. السلطة في مصر اعتادت أن تتعيش على تجريف السياسة وتغييب الأحزاب السياسية «الحقيقية»... كلمة سياسي تعنى أن لدية أفكاره ومواقفه. والسلطة في مصر لم تعتد ذلك. هل تذكرون ما شهدناه على الهواء مباشرة صبيحة مؤتمر الحزب الوطني (١٥ــ١٧ سبتمبر ٢٠٠٢) وكيف رد السيد يوسف والي والذي كان يومها أمينه العام على سؤال الصحفيين هل ستظل أمينا للحزب؟ يومها قال: «نحن جميعا سكرتارية السيد الرئيس يضعنا حيثما يشاء». ويومها، لم يستغرب أحد تصريح المسؤول الكبير. لا غرابة في الأمر. فهذا «مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا». وهذه هي ثقافة الحكم في مصر.. حيث الحاكم الفرد، ومن حوله ليسوا أكثر من بيادق. والبيادق، بالتعريف لا تعرف «السياسة»

***

هل تعرفون كيف يكون تأميم المجال السياسي ممنهجا وفاضحا وفجًا وبلا حياء؟

في نوفمبر  ٢٠١٥ أجريت الانتخابات الطلابية في الجامعات، ورغم كل التدخلات الأمنية والإدارية، لم تأت النتيجة كما تريدها الأجهزة، فما كان من الوزارة (المأمورة بدورها من الأجهزة ذاتها) إلا أن ألغت  النتائج، ثم ألغت الانتخابات ذاتها، ثم كان أن تخلصت من «الرجس» ذاته، فأعلن السيد الوزير بداية هذا العام، وبكل صراحة: «مفيش اتحاد طلاب مصر السنة دي» تطبيقا للمثل المصري الشهير «الباب اللي يجيلك منه الريح»..  وبالفعل، ها قد قارب العام الدراسي على الانتهاء، دون أن  ترتكب الوزارة «إثم» إجراء الانتخابات، التي يراها بعض أتباع شيخ الجماعة الإسلامية الذي شيعوا جنازته قبل أيام «بدعة من اختراع الغرب».. ويا لها من مفارقة.

***

وبعد..

فربما هناك من نسى، أو لم يقرأ ما يكفي في تجارب الدولة المصرية على مدى عقود، فبدا وكأنه لا يريد أن يوفر جهدا في تكرار الأخطاء الكارثية ذاتها، التي عرفناها وجربنا نتائجها. بداية بتجريف السياسة، وإقصاء هذا أوذاك، ونهاية بمعتقلات تتحول مع الظلم إلى مفارخ للإرهاب.

………

ثم يبقى أننا قد نتفق أو نختلف في قراءة جنازة الشيخ الراحل، كما قد نتفق أو نختلف مع كثير أو قليل مما أسهم به «الأستاذ» محمد حسنين هيكل فى الفكر العربي الحديث، فالاختلاف من سَنَن الله في خلقه، ولكن لا أظن أن هناك من بوسعه أن يختلف مع حقيقة أن مصر شهدت (وما زالت) تجريفا للسياسة ممنهجا وغير مسبوق. وأن لهذا ثمنه. وأول الخاسرين هي الدولة.. إذا تدبرنا جيدا ماذا يعني تعريف «الدولة» في علم السياسة.

 

التعليقات