الواعظ والسلطان والتوأم الملتصق

العلاقة بين الواعظ والسلطان فى التاريخ الإسلامى علاقة ممتدة ووطيدة مثلها مثل علاقة التوأم الملتصق، وقد عبر عنها عالم الاجتماع العراقى الكبير الراحل على الوردى فى كتابه: «وعاظ السلاطين» أجمل وأدق تعبير، يقول «الوردى» فى كتابه «الخليفة مزدوج الشخصية إذا جاء وقت الوعظ بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى»!! أعجبتنى هذه العبارة، ذات الدلالة التى لم تغيرها العصور والأزمنة، كتبها د. على الوردى وهى لا تعبر عن ازدواجية حكام العراق فقط، ولكنها ما زالت تنبض بالحقيقة حتى هذه اللحظة، يؤكد كتاب «وعاظ السلاطين» أن مصدر هذه الازدواجية هو الصراع ما بين بداوة القلب وإسلام اللسان الذى عاش فيه تاريخ المسلمين فى معظم فتراته، وبالتحديد مع بداية الفتنة الكبرى، يصف «ابن جبير» فى رحلاته هذه الازدواجية بقوله: «البكاء عند سماع الوعظ أصبح غاية لذاته فى نظر البغداديين فهم لا يبالون بنقص الكيل فى الأسواق واستغلال الغريب، ولكنهم فى مجلس الوعظ يبكون ويشهقون ثم يغمى عليهم»، يخلص «الوردى» إلى نتيجة من قراءاته التاريخية أنه كلما كان الظلم الاجتماعى أشد، كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر، ويعلق على الوردى على ما يسمى مهنة الوعظ، قائلاً: «لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل فى الحصول على مهنة أخرى، إنها مهنة سهلة على أى حال فهى لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التى تملأ النظر وتخلبه، ويستحسن فى الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء، ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس، فيبكى ويستبكى، ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله قد رضى عنهم بمجرد سماعه، ويأتى المترفون والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفاً سعيداً»!

ويضيف «الوردى»: «الواقع أن الوعاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك يظلمونهم بأقوالهم، فلو أن الواعظين كرسوا خطبهم الرنانة على توالى العصور فى مكافحة الطغاة وإظهار عيوبهم لصار البشر على غير ما هم عليه الآن». الوعاظ صنعوا وصمتوا عن وشاركوا فى الصناعة الوحيدة التى أتقنها العرب، ألا وهى صناعة الطغاة، سأنتقى لكم بعض الأبيات التى شاعت فى فضاء الخلافة، وهذه عينة فقط: ماذا ننتظر من «الرشيد» حين يقال له: «كأنك من بعد الرسول رسول»!، وماذا ننتظر من المعز الفاطمى حين يقال له: «ما شئت لا ما شاءت الأقدار.. فاحكم فأنت الواحد القهار»، وماذا ننتظر من «المتوكل» الذى وصف بأنه «ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»!!. إذا خرج الطاغية عن تعاليم الدين وصفه وعاظ السلاطين بأنه مجتهد، ومن أخطأ فى اجتهاده فله حسنة، أما إذا جاء الفقير برأى جديد قالوا عنه إنه زنديق وأمروا بصلبه على جذوع النخل!!، الواعظ اهتم فقط ببكاء «الرشيد» عند سماع عظاته، لكنه لم ينتقد الألفى جارية والستة ملايين درهم التى نثرت تحت قدمى مغنية منهن، والمائة ألف دينار التى اشترى بها جارية أعجبته أو الأخرى التى اشتراها بستة وثلاثين ألف دينار ثم أهداها لصديقه فى اليوم التالى!!، لا إدانة للحاكم الذى زرع بذور الشغب بترفه، إنما كل الإدانة من الوعاظ وقتها لهؤلاء المشاغبين الذين كانوا يصلبون على جذوع النخل بفتوى جاهزة!..

التعليقات