وزارة الاتصالات تشغل مكوك فضاء فى بولاق الدكرور

 

قادتنى الظروف مؤخرا للدخول فى مناقشة مع فريق من وزارة الاتصالات مسئول عن تقييم نظام ميكنة دورات العمل بإحدى المؤسسات، وأصابنتى المناقشة بالإحباط، لأن الفريق أعادنى إلى نقطة الصفر التي عايشتها مع هذه الوزارة منذ إنشائها فى 13 اكتوبر 1999، وهى أنها تمارس دورها كاستشاري لمؤسسات واجهزة الدولة المختلفة بطريقة وضع وتشغيل مكوك فضاء فى حى شعبى عشوائى مكتظ بالسكان كبولاق الدكرور، فتكون النتيجة خور قواه وتدهور كفاءته وفقد قيمته، حتى يصبح فى مستوى التوك التوك الذي يزاحمه الطريق، ثم ينتهى به المطاف للإزاحة خارج الطريق، غير مأسوفا عليه، لتضييع الملايين التى دفعت فيه والفائدة التى كانت مرجوة منه.
كالمعتاد ... كانت المجموعة التى يتشكل منها الفريق شخصيات محترمة، شابة صغيرة السن، تتمتع بالحماس والجدية والهمة، لكنهم جميعا بمن فيهم رئيس الفريق الذي يحمل درجة الدكتوراه، مصابون بداء المشاهدة فالانبهار فالانهيار والانصياع والتضعضع أمام العقل الاجنبي المتجسد فيما يرونه من منتجات، والإدمان التام لكل ما يمت بصلة لصيغة أفعل التفضيل، كالأحدث والأقوى والأغلي والأعقد والأكبر إلي آخره، وذلك كله بلا قيد ولا شرط ولا حائط صد ولا عقل نقدي مستقل، يمنح فرصة مكافئة للنموذج القائم على المعقول والمناسب في القيمة والتكلفة والمعتمد على إبداع العقل الوطنى، وعلى جعل متطلبات بيئة العمل الحقيقية هى العنصر الحاكم فى النظر لما يتم تقييمه والتعامل معه.
منذ اليوم الأول لبدء العمل فى إنشاء وزارة الاتصالات ... كانت الرؤية التي تطبقها الوزارة فى ممارسة دورها كاستشارى لمؤسسات واجهزة الدولة المختلفة هي تبنى نموذج "الهبوط السريع من أعلى"، وتشييد مراكز "تميز" تتخلص من كل المعوقات القائمة، وتنطلق للأمام لتشد ورائها كل مظاهر التخلف القائمة بالمؤسسة أو المنظمة التى تعمل لها كاستشارى.
تجسيد هذه الرؤية عمليا، فرض على الوزارة ومسئوليها واستشارييها التسليم المسبق المبدئى والكامل ـ فى الغالبية الساحقة من الأوقات ـ بعظمة وسيادة وفائدة وجدوى العقل الاجنبى ومنتجاته فى مجال التكنولوجيا، وأنه لا مجال مطلقا للانطلاق من قاعدة العقل الوطنى، لأن ذلك سيكون بلا معنى وبلا قيمة ومضيع للوقت.
ألقى هذا النهج بظلاله على الفلسفة أو الرؤية التى تحكم عمل الفرق الاستشارية بالوزارة، فراحت ترتكن فى عملها إلى نموذج (مشاهدة ـ فانبهار ـ فانهيار ـ فاستسلام ـ فقرار"، والقرار هنا التوصية بالمضي فى هذا الاتجاه أو ذاك، و اختيار هذا المنتج أو رفض ذاك، وذلك كله باستسلام مطلق للتقنية، من دون قيد أو شرط او حاجز صد ثقافى أو مجتمعى.
حقق هذا النهج نجاحات لا يمكن إنكارها، ولكن بتكلفة باهظة ضاعت بسببها ملايين الجنيهات والدولارات، وتسبب فى إخفاقات لا يمكن إغفالها، خسرت بسببها البلاد فرصا هائلة لا يمكن تعويضها، وخلف وراؤه عشرات المشروعات البراقة التى انقطع نفسها وأصبحت بلا قيمة واختفت، وعشرات وربما مئات المشروعات الضامرة النتائج التى تصارع لكي تستمر، وتحقق نسبة ضئيلة مما كانت تبشر به.
ومن ابرز وأخطر النتائج التى ترتبت على هذا النهج أنه بعد 18 سنة من عمر الوزارة فى عملها كاستشاري، لم تستطع الوزارة الوصول لشركة أو مركز تميز وطنى واحد، قادر على تطوير نظام يمثل علامة تجارية فارقة فى السوق المحلية أو الدولية فى مجال إدارة المؤسسات ونظم العمل الداخلية، ويشكل نقطة ارتكاز لصناعة مستقلة ناجحة ضاغطة، وبنهاية المطاف لا تزال البلاد سهلا منبسطا أمام ما تلقيه إلينا الجوارح المفترسة والعملاقة من الشركات العالمية الكبري.
بمرور الوقت ضرب هذا النهج الدور الاستشاري التقنى للوزارة فى مقتل، لأنه حينما يتعامل القائم بالمشورة الفنية مع التقنية بنهج المشاهدة فالانبهار فالانهيار فالاستسلام المسبق، تسقط كل عملية نقد واعية بالسياق الاجتماعي الثقافى المهنى السائد محليا سقوطا حرا فى اللاوعى لديه، فينطلق فى أعماله الاستشارية من وضعية تحاول عرضا أو عمدا نفي كل ما هو مغاير لما شاهده وانبهر به، فيتعامل معه باستنفار وعدوانية وتربص مسبق، وهنا يكون السياق المجتمعى الثقافى الاقتصادى قد خسره كلية، والتقنية تملكته من أوله لآخره.
فى لحظة سقوط السياق سقوطا حرا فى لاوعيه، يكون اداء القائم بالمشورة الفنية قد هبط للمستوى الأدنى، فهو فى هذه الحالة قد تنازل عن نظرة المعماري الذي يتعامل مع المشروع كتكوين معماري يتعين أن يكون على معايشة كاملة مع البيئة المحيطة به، وتخلي عن نظرة الإنشائى الذي يستلهم ما قدمه المعماري فى صورته الكلية ويقوم بتنفيذه، ووصل إلي مستوى مهندس التنفيذ والإشراف الذي لا يعى إلا سمك عمود او ضبط زوايا سقف قبل الصب، بل هناك منهم من يهبط إلى مستوى مقاول الانفار الذي لا يفهم من كل هذه التفاصيل سوى رفع الخرسانة على الكتف.
يعرف جميع من تعامل مع هذا القطاع أن من بين استشاريي الوزارة من مارس عادة قتل العقل الوطنى بدم بارد عشرات المرات خلال السنوات الماضية، تارة بالمصادفة وعن غير وعي، وتارة إيثارا للسلامة وحشرا لكل ما تنطبق عليه مشتقات صيغة أفعل التفضيل، من أحدث وأقوى وأغلي وأعقد وأكبر إلي آخره، لكي يحقق ما يتصور أنه تأمينا لنفسه عند أية مراجعة أو مساءلة، وتارة عن وعى وخبث ودهاء إرضاءا لمعتقد أو تحقيقا لمصلحة.
من العبث توجيه هذا التعليق لأي من أعضاء الفرق الاستشارية للوزارة الحالية، بل لابد ان يوجه إلى الوزير ياسر القاضي، وبعد المناقشة التى شاركت فيها هذا الاسبوع، أقول بوضوح لياسر القاضي أنك أنت وحدك دون غيرك المسئول عن المسارعة بمراجعة الرؤية التى تعمل بها الوزارة وهى تمارس دورها كاستشاري لمؤسسات الدولة واجهزتها، فليس من المعقول أن نكون فى عام 2017 ونكتشف أننا فى نقطة الصفر التى كنا نناضل من أجل تحسينها وتعديلها فى مطلع 2001 ، حينما أعلنت الوزارة عن أول خطة لتنمية القطاع بعد إنشائها.
على ياسر القاضي المراجعة والتدقيق، فقد دخل الوزارة بخبرة رجل مبيعات من طراز رفيع، وامامه الآن هذه المهمة التى لو نجح فيها فسيخرج من الوزارة وهو "رجل دولة" ... أتمنى أن يستطيع.
(ملخص تحليل مطول حول الدور الاستشاري لوزارة الاتصالات نشرته لى جريدة المقال الغراء الاربعاء 12 ابريل)
التعليقات