صفقة القرن الحقيقية

(1)

«صفقة القرن» تعبير غامض أطلقه الرئيس السيسى، خلال مؤتمر صحفى مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وأغلب التكهنات تشير إلى أن هذه الصفقة ترتبط بتسوية الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، كما تقول التصريحات المتكررة للسياسيين منذ عقود طويلة، لكن هل هناك بالفعل صفقة يمكن أن تحقق السلام للعرب؟

(2)

الواقع الذى نعيشه يؤكد أن الشرق الأوسط لن يعرف السلام قريبا حتى لو تمت تسوية القضية الفلسطينية، لأن معوقات السلام (العربى- العربى) صارت أكبر من موانع السلام (العربى- الإسرائيلى).

(3)

الحديث عن السلام (العربى- العربى) ليس نكتة ولا سخرية من تعثر نتائج السلام العربى- الإسرائيلى، لكنه واقع كابوسى يهدد بخراب الدول العربية من داخلها بدون أن تطلق إسرائيل صاروخا واحدا أو ترمى بقنبلة، فإذا نظرنا إلى الحروب المندلعة على الأراضى العراقية والسورية واليمنية والليبية، والتحديات التى تهدد مصر، سنكتشف أنها ليست مع عدو خارجى، لكن الأنظمة والجماعات المتحاربة تنتمى كلها إلى وطن العروبة والإسلام، وإن كان بعضها يحارب بالوكالة عن أطراف إقليمية ودولية أخرى.

(4)

وقائع التاريخ تؤكد أنه لا توجد حرب أبدية، لهذا يتوقع كثير من المحللين أن يكون 2017 من أعوام الحسم لعدد من الصراعات الدائرة على الأرض العربية، ويحاولون إثبات ذلك بالإشارة إلى التحرك الأمريكى المكثف فى المنطقة مع بداية رئاسة ترامب، لكن هذه التوقعات فى رأيى ليست إلا نوعا من التفكير بالأمنيات والأحلام، فالخلافات أعمق وأعقد من أن يحلها ترامب ولا أى رئيس أمريكى قادم.

(5)

لا أدعو للإحباط، لكننى أوضح أن السلام بات مهددا داخل كيانات الدول العربية نفسها، وبالتالى فإن السلام مع إسرائيل بفرض أنه تحقق، فلن يتحقق معه أى سلام بين المتحاربين العرب، لذلك أرى أن السلام الداخلى صار يتقدم فى الأولوية على سؤال السلام مع إسرائيل، ورأيى لا يخص سوريا وليبيا والعراق فقط، لكننى مشغولة أكثر بمصر، فنحن نحتاج إلى «سلام مصرى- مصرى»، لأننا وصلنا إلى درجة صعبة وخطيرة يجتمع فيها الإحباط واليأس والعنف معاً، نتيجة التعثر فى تحقيق أهداف ثورة يناير، ثم مرة ثانية فى 30 يونيو، فقد خابت توقعات أعداد كبيرة كانت تراهن على حدوث تغيير حقيقى فى نظام الحكم، لكنها لم تجد خططا وخطوات جادة فى الحرب على الفساد، والقضاء على صور التمييز فى المجتمع، وفى الاحتكام لمواد الدستور وتطبيق القانون على الجميع ودون استثناءات، بالإضافة إلى المناخ التشاؤمى الناجم عن أوضاع اقتصادية زادت صعوبة وحالة غلاء فاحش، وزيادة الاستقطاب الحاد والانقسام المجتمعى، واستمرار غياب المعارضة السياسية الفعالة والمؤثرة.

(6)

لذلك فإن السلام فى مصر لن يتحقق بسلام دافئ مع إسرائيل، بل يحتاج إلى سلام شامل بين المصريين وبعضهم البعض، لأن الأزمة التى نعيشها ليست فقط أزمة سياسية بين المعارضة ونظام الحكم، لكنها أزمة ثقة ومخاطر تخوين تهدد النسيج الاجتماعى، وتدفعه إلى حافة العنف، ليس بمعناه السياسى فقط، ولكن أيضا فى عمق المجتمع، كما نلاحظ فى تفشى ظاهرة التحرش فى الشارع، والخشونة والغلظة والتدنى فى المعاملات اليومية بين أفراد المجتمع، وفى شيوع الفهلوة بدل الاجتهاد، وفى التنازل عن الإتقان كسبيل سهل لتحقيق المكسب السريع، وفى التفاخر والمظهرية و«الجنيه غلب الكارنيه»، وفى انتشار الكذب وخيانة الأمانة والميل إلى الفضح، وفى تغليب المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية، وفى التعامل مع المال العام باعتباره «مال سايب» لا رقيب عليه.. وغيرها من المظاهر التى تدل على خلل فى منظومة القيم فى المجتمع رغم مظاهر التدين السطحى.

(7)

لقد كان الرئيس السيسى محقاً حين قال: «إن هذا الشعب لم يجد مَن يحنو عليه»، وقد جربنا أن ننتظر «الطبطبة» على مواجعنا من السلطة، لكن النتيجة دائما كانت المزيد من استغلال البسطاء لتحقيق مصالح رجال الدولة والحاشية، والمزيد من الظلم والفقر والمطالبة بالصبر، لذلك علينا أن نتذكر المثل العربى: «ما حَكَّ جلدك مثل ظفرك»، وأن «نهرش هرشتنا بأيدينا»، ونثق فى قدراتنا كمواطنين، ونتحرك لحماية مستحقاتنا المنهوبة، بما يتوافق مع الدستور والأساليب المشروعة فى العمل الديمقراطى.

وهو الحلم والهدف الذى عبرت عنه مبادرة تأسيس «سلطة المواطنة»، التى أُعلن انضمامى إليها، وأعتبر نفسى من المواطنين المتحمسين لها لتحقيق سلامنا الاجتماعى وعودة التوافق والتجانس والتناغم بين كل أفراد الوطن على اختلاف ألوانهم وأفكارهم وأصولهم، فمصر طوال تاريخها كانت وطنا لمَن يختارها، حتى من الأجانب والغرباء، ولا يليق بها أن تستمر تحت ضغط العنف والتناحر وجراثيم الكراهية، التى تهدد بتفسخ المجتمع كله، ولابد من عودتها كوطن حاضن لأهلها ولكل مَن يقصدونها ويدخلونها بسلام آمنين.. وهذه هى «صفقة القرن الحقيقية».

التعليقات