أزمة القضاة وما حولها

لا يوجد سبب واحد مقنع يبرر إصدار قانون ينال من صميم استقلال القضاة دون التفات للاعتراضات الجوهرية التى أبدوها، أو لمستوى الغضب الذى أعربوا عنه، مضى كل شىء بتعجل، كأنه مقصود بذاته.
أقر القانون فى نحو نصف دقيقة بالتصويت وقوفا، وكان ذلك مخالفة صريحة لقواعد حساب الأصوات اللازمة لتمريره.
لم يجر أى نقاش فى بنوده، التى تلغى قاعدة الأقدمية فى رئاسة الهيئات القضائية وتمنح رئيس الجمهورية حق الاختيار بين مرشحين متعددين، وكان ذلك مصادرة لإرادة قطاع يعتد به من النواب.
كما لم يؤخذ رأى قسم التشريع بمجلس الدولة، الذى يخوله الدستور مراجعة مشروعات القوانين قبل إقرارها، بأى اعتبار ولا جرت أى إشارة إلى حيثياته التى دمغته بـ«عدم الدستورية»، وكان ذلك استخفافا صريحا بقضية الشرعية.
ثم بعد ساعات نشر القانون المتعجل فى الجريدة الرسمية، وكان ذلك إغلاقا لأبواب حوار يمنع الصدام بين سلطات الدولة.
الصدام كارثة كاملة إذا ما تأسس على نزعات انتقام وتصفية حسابات.
لكل سلطة صلاحياتها وأدوارها الدستورية التى لا يصح أن تتخطاها.
جوهر الأزمة هو استقلال القضاء.
هل هناك قضاء مستقل أم لا؟
وهل يجوز للسلطة التنفيذية أن تتدخل فى أعماله أم لا؟
تلك قضية لا تخص القضاة وحدهم، فاستقلال القضاء هو جوهر أى دولة حديثة وأمل أى تطلع للديمقراطية.
إذا شعر القضاة بأن تغولا يجرى على طبيعة أدوارهم، فإنه لا يكون هناك محل للحديث عن دولة القانون.
دولة القانون ترادف حق كل مواطن فى العدالة، وبلا استقلال قضاء فلا عدالة ممكنة.
ودولة القانون تضمن الحريات العامة، وبينها حريات الصحافة والإعلام والبحث العلمى والتفكير والإبداع.
كما يقال عادة لا حرية صحافة بلا استقلال قضاء.
فوق ذلك كله فإن تثبيت الثقة العامة فى القضاء من ضرورات بناء الدول الحديثة، الحرة والعادلة.
بلا استقلال قضاء فلا دولة حديثة قادرة على مواجهة التحديات الضاغطة.
كل شىء سوف يدخل فى انكشاف، وهذا مناخ يساعد جماعات العنف والإرهاب على التمركز والتمدد والضرب من حين إلى آخر فى الوجع.
هناك كلام كثير يتردد فى الخطاب الرسمى عن أولوية تثبيت الدولة، وهذه مسألة لا يصح التهوين من أهميتها.
إذا لم تتثبت الدولة فإن خسارة المستقبل مؤكدة، لا الاستقرار ممكن ولا تنشيط الاقتصاد وارد ولا جذب الاستثمارات متاح.
لكن أى دولة نقصد؟
العودة إلى المربعات القديمة لا تصلح، فمصر تغيرت بعمق تحت السطح ولا يمكن أن تعود إلى الوراء.
فى العودة إنكار لـ«يناير» وتغييب للدستور.
وتلك مسألة شرعية بين قوسين كبيرين.
إذا لم يحترم الدستور فأى تثبيت هش وأى استقرار مؤقت.
أسوأ ما حدث فى أزمة القضاة افتقاد الحساسية السياسية عند الاقتراب من مثل هذه الملفات الشائكة والاستخفاف بالأصول الدستورية.
بل إن إهانة الدستور صارت عادة متبعة داخل البرلمان، وعلى بعض الشاشات، كالتعريض بثورة «يناير»، التى هى جذر الشرعية.
لا توجد شرعية بلا جذر وسند.
إذا ما قوض الدستور، الإنجاز الممسوك الوحيد منذ عاصفة الثورة، فلا شرعية لأى شىء.
الشرعية مسألة تثبيت دولة، كما أنها مسألة صنع مستقبل.
الاستهتار بالشرعية الدستورية عواقبه مكلفة والصدام مع القضاة خاسر سلفا.
لا يمكن أن يكون هناك استقرار ممكن فى ظل ذلك التحرش بمؤسسة العدالة والقدر المتحقق من استقلالها.
وإذا لم تكن هناك دولة قانون تحترم الدستور والفصل بين السلطات، فإنها لا تقدر على تحد ولا تصمد أمام عاصفة.
الأمن ضرورى لأى دولة، لكنه يأخذ معناه الحديث بإصلاحه وفق القيم الدستورية، التى تؤكد الحريات العامة وتحفظ حقوق المواطنين وتفصل بين سلطاتها.
كما هى العادة فى التاريخ المصرى فإن أزمات القضاة منذرة.
الأزمة الجديدة مرشحة للتفاعل والتصعيد، كأن الذى أصدر القانون يطلب حربا مفتوحة بين مؤسسات الدولة دون تحرز للعواقب على مدى منظور.
هل بمثل هذه الممارسات تتثبت الدولة أم أنها تفتح أبواب جهنم على بلد منهك تحاصره أزماته ويحاول بالكاد أن يفلت منها؟
التحرش البرلمانى بالقضاة يرادفه بالتوقيت نفسه تحرش آخر بالأزهر الشريف دون إدراك فداحة الكلفة السياسية.
هناك من يطلب عقاب شيخ الأزهر على بعض مواقفه، التى تباينت مع السلطة التنفيذية دون أن يدرك أنه يطلق الرصاص على أقدامه.
الفارق جوهرى بين النقد والتفلت.
القصور ليس خافيا فى الأداء العام للأزهر بمحاربة الإرهاب، وهذا يحتاج إلى تصحيح عاجل، لكن تحميله فوق طاقته شىء آخر تماما، والتفلت بذاته دعم صريح للإرهاب وجماعاته.
التلويح بقانون جديد ــ من باب العقاب لا الإصلاح ــ كأنه حشو رصاص فى بنادق الإرهاب.
هل هكذا تستقيم الأمور وتتثبت الدولة؟
أول مقتضيات إصلاح الأزهر استقلاله حتى تكون هيبته نافذة وقراراته مسئول عنها وفرص إصلاحه طبيعية من داخله بالحوار لا التعدى.
وفق النصوص الدستورية الملزمة فالأزهر مؤسسة مستقلة، كما أن القضاء مستقل.
بقدر استقلال الأزهر تتأكد هيبته، والاستخفاف به عواقبه وخيمة.
وبقدر استقلال القضاء تتأكد العدالة وقيمها والاستخفاف يشرخ فى الشرعية.
بكلام آخر فإن الشرعية الدستورية وحدها من تثبت الدولة وتحسن صورتها وتأكد قدرتها على تجاوز أية أزمات تعترضها وتفسح المجال واسعا للمستقبل أن يتقدم.
أى كلام آخر فهو وهم كامل.
مصر تحتاج للتماسك على قواعد وأصول ثابتة لا هشة، وأن تجد حلولا لمعضلة الحرية والأمن، كيف نصون الأولى ونحفظ الثانى.
وقد كان لافتا فى المؤتمر الوطنى الثالث للشباب، الذى عقد بالإسماعيلية، أن أحدا لم يتابع ملف المعتقلين المظلومين من الشباب، الذين تعهد الرئيس فى المؤتمر الأول بشرم الشيخ بالإفراج عنهم، ولا أحد تساءل لماذا توقفت الإفراجات؟
المتابعة بشفافية من متطلبات تثبيت الدول، واستقلال القضاء ضمانة عدالة أخيرة.
كما أن مصر تحتاج إلى حلول تضمن العدل الاجتماعى وعدالة توزيع الأعباء للإصلاح الاقتصادى، حتى لا تتحملها الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا، لكن لم يكن هناك وقت لأسئلة حقيقية فى هذا المؤتمر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى تعيد إنتاج الماضى وتؤذن بتداعيات خطيرة.
بصياغة أخرى فإن مؤتمرات الشباب الدورية لا تساعد على حلحلة أية أزمات إذا ما اقتصر دورها أن تكون منصة للخطاب الرسمى، دون دخول فى صلبها.
إذا لم يعرف هذا البلد كيف يخاطب نفسه بإقناع وينتصر للقيم الدستورية بوضوح فإن رحلته إلى المستقبل غامضة.
واجب كل مصرى يحرص على بلده أن يدعم بقدر ما يستطيع قضية استقلال القضاء.
كل ما هو دستورى شرعى.
وكل ما هو طبيعى مستقر.
هذا ما تحتاج إليه مصر الآن.

 

التعليقات