الخسارة.. الحرية.. والبديل

(1)

ماذا لو تحققت كل مخاوفك؟ وفقدت بين ليلة وضحاها كل ما كنت تأمل في الحفاظ عليه وما تعودت أن تتمسك به وما ظننت أن الحياة بدونه مستحيلة، ماذا يمكن أن يحدث لك حينذاك؟

هل فكرت يوما في ذلك؟، هل حاولت أن تكتب بنفسك ولنفسك سيناريو الخسارة؟ وأن تجعل له نهاية غير مأساوية، نهاية مثل الحياة.. متقلبة.. حزينة.. مفرحة.. في كل الحالات لا أحد يعرف ماذا تخفى الحياة لنا؟.

لو استطعنا أن نُهيئ أنفسنا للخسارة، يا ترى هل يمكن لشخص أو حكومة أو دولة أن تجعل من مخاوفنا أداة للسيطرة على عقولنا؟ هل يمكن أن تتم الاستعاضة عن المنطق بالأكذوبة والشائعة؟ أم أننا سنجد مخرجا نستعيد به خسارتنا معتزين بما حصلنا عليه من حرية في مقابلها.

(2)

حول هذه المعانى تدور أحداث الفيلم الفرنسى «المستقبل» الذي حصلت مخرجته الفرنسية الشابة ميا هانسن لاف (36 سنة) على جائزة الدب الفضى في مهرجان برلين العام الماضى وهى التي كتبت سيناريو الفيلم، وقامت ببطولته الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير، الذي حصلت عنه على جائزة أحسن ممثلة من عدة مهرجانات دولية، الفيلم بسيط وعميق كما الحياة، تقوم فيه إيزابيل أوبير بتجسيد دور «ناتالى شيزو»، سيدة خمسينية، تعمل بتدريس الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية في إحدى مدارس باريس، وكذلك زوجها هاينز، الذي تختلف عنه فكريا، فهى أكثر مرونة، بدأت حياتها مؤمنة بالفكر الشيوعى وبعد ثلاث سنوات هجرته بعد أن تبين لها أنه وهم، وهى مدرسة متفاعلة مع طلابها، تعيش ناتالى وهاينز حياة عائلية مستقرة ومنسجمة وتبدو مثالية، لديهما ابنة «كلويه» وابن «يوهان»، كلاهما استقل بحياته بعيدا عن منزل الأسرة، أمها «إيفيت» سيدة مسنة تشعر بالوحدة الشديدة وهو ما يجعلها تكذب دائما بشأن حالتها الصحية لتستدر عطف ابنتها الوحيدة، التي تقرر في النهاية ضرورة أن تذهب بها إلى دار مسنين حتى تطمئن أنها تحت الرعاية على مدار الساعة، لكن حالة إيفيت تسوء وسرعان ما تموت بعد فترة قصيرة من انتقالها إلى الدار، في هذه الأثناء يعترف هاينز لزوجته بأنه يعرف أخرى وسينتقل للحياة معها.

خسارة تلو الأخرى، ضربات موجعة وحزينة، موت الأم، وخزلان الشريك الذي ظنت أنه سيبقى على حبه لها إلى الأبد، الهموم لا تأتى فرادى، بالإضافة إلى ما سبق تتوقف دار النشر التي تطبع كتب «ناتالى» الدراسية عن الطبع لأنها لا تلقى رواجا، الخسارة المادية تكمل حلقة الخسائر.. في النهاية تجد ناتالى نفسها وحيدة وقد خسرت الكثير. كان عليها أن تقتنع أن لا شىء في الحياة يستمر إلى الأبد.. كل شىء معرض للتغيير.. كل شىء نفترض أنه الحقيقة يمكن أن يكون موضوعا للجدل والمناقشة كما كانت تفعل مع طلابها.

(3)

استطاعت ناتالى أن تستوعب كل هذه الخسائر، واستعادت قدرتها على إدارة حياتها بطريقة جديدة، فعلت ذلك بالوعى ونضجها الفكرى، استخدمت ما تعلمته من الكتب في حياتها، قبلت بما طرحته عليها الحياة كاختبار، وتماهت مع دورها الجديد، جدة لطفل ابنتها كلويه. وافقت على عرض طلابها بأن تشارك معهم في موقع فلسفى على الانترنت.. الحياة كما تأخذ تُعطى، كل يوم هناك بدائل عما خسرناه، لكننا كثيرا ما نكون غير مستعدين ذهنيا لقبول قانون الحياة وسنة الكون.

(4)

«أولادي غادروا المنزل وزوجي تركني وأمي توفيت لكننى وجدت حريتي الكاملة التي لم أختبرها من قبل».

بهذه العبارة اختصرت «ناتالى» حالها، وهى تتحدث إلى تلميذها المفضل فابيان الذي اختار لحياته شكلا مختلفا عن المتوقع من طالب نابه ومفكر نابغ.. فكرت في ناتالى وحالنا كمصريين، هل نختلف عنها أم هي التي تختلف عنا، بقدر ما لديها من ثقافة ووعى؟، الإنسان أينما كان يعيش نفس الاختبار، لكن يختلف في ردود أفعاله.

(5)

هناك من يجدون أن ثورة يناير كانت نكبة على مصر، أضرت بمسيرتنا كبلد مستقر تحت حكم نظام مبارك العتيق، لكنهم لا يبصرون ما حصلوا عليه، لماذا؟ لأنهم يسجنون أنفسهم في خانة الاستقرار الوهمية لا يريدون أن يغادروها، هؤلاء يرفعون شعارا أبديا «لا بديل عن الموجود».. ولهؤلاء وغيرهم أنصحهم بمشاهدة فيلم المستقبل بدلا من الخطب والمواعظ.

اخسر لتكسب وتأكد أن البديل دائما موجود.. لكن فقط عليك أن تكون مستعدا ذهنيا ونفسيا لاستقباله وقبوله كما فعلت ناتالى.

التعليقات