الاعتكاف.. والمعتكفون

ها نحن أولاء، نعيش الأيام الأخيرة من شهر رمضان (1438هـ). تدفّقت أيام الشهر الكريم سراعاً حتى أوشك على الرحيل. هكذا تُعلمنا الأيام أن كل من له أول له آخر، وكل بداية ولها نهاية. الأيام العشرة الأخيرة من رمضان هى أيام الاعتكاف، بعض المصريين يميلون إلى إحياء سنة الاعتكاف خلال هذه الأيام، منهم من يعتكف بالمساجد، ومن يعتكف فى المنازل، وغير ذلك. وفى تقديرى أن مفهوم الاعتكاف مفهوم شديد الاتساع فى الإسلام، ولا خلاف على أن الإنسان أحياناً ما يكون بحاجة إليه، لأغراض إيمانية، أو لأغراض حياتية دنيوية.

تتبادر إلى الذهن فكرة «الاعتزال» عند الاستماع إلى كلمة «اعتكاف». الاعتزال يعنى ترك دنيا البشر بما فيها من صخب أو غضب، والفرار إلى مكان آخر أكثر هدوءاً يساعد على الخلو إلى النفس، أو إلى خالق النفس. يحكى لنا القرآن قصة أصحاب الكهف والرقيم التى تقدم لنا تجربة إنسانية وإيمانية رفيعة ستظل خالدة فى تاريخ البشر. جعل الله فتية الكهف آية من آياته، وعجيبة من أعاجيبه، حين قرروا اعتزال قومهم وما هم عليه من شرك والفرار بعقيدة التوحيد، بعيداً عن تهديدات من لا يريدون ترك الموحّدين فى حالهم، ولا يرضيهم إلا أن يكون البشر جميعاً مقاسمين لهم فى عقيدتهم. أوى الفتية إلى الكهف، وهم فى شك من أن ينصلح حال هؤلاء المشركين، الذين اتخذوا من سلطان الأرض بديلاً لسلطان السماء، دخلوا الكهف وخلوا إلى أنفسهم وربهم، ثم غلبهم النُّعاس، فغطوا فى نوم عميق، فى حين كان يجلس كلبهم خارج الكهف، باسطاً ذراعيه بالوصيد.

استيقظ أصحاب الكهف فجأة وأخذوا فى التثاؤب، ثم أخذوا يسألون بعضهم بعضاً: «كم لبثتم؟»، فأجاب بعضهم: «قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم»، أنى لأحدهم أن يتصور أنه نام وصحبته لأكثر من ثلاثة قرون؟ كان من الطبيعى للغاية أن يظنوا أنهم ناموا بضع ساعات أو يوماً كاملاً على أقصى تقدير. غلبهم الجوع، فكلفوا أحدهم بالتماس طعام يأكلونه، على أن يذهب ويعود فى الخفاء، حتى لا يقتحم أحد خلوتهم ويعلم بأمرهم، فيجرهم المجتمع من جديد، ويعيدهم إلى ملته. ذهب المكلف بإحضار الطعام بعملة من الفضة اكتشف البائع الذى ذهب يشترى منه أنها تنتمى إلى عصر الملك، الذى كان يحكم منذ ما يزيد على 300 عام، صرخ مندهشاً، وأمسك بالرجل وهتف لمن حوله أن هذا الرجل عثر على كنز من كنوز الأجداد، هرول المسكين الذى أصابه الموقف باضطراب عنيف، وجرى نحو الكهف إلى حيث الخلوة مع أصحابه، وعدا الناس من خلفه حتى وصلوا إلى الكهف واكتشفوا الأمر، وأدركوا أن هؤلاء هم الفتية القديسون، الذين فروا بدينهم منذ ثلاثة قرون، كم الترحيب والإجلال الذى قابل به الناس أدهش أصحاب الكهف، لكنهم أدركوا فى ما بعد أن الناس جميعاً أصبحوا مؤمنين موحدين مثلهم، وأن الهدى هدى الله. الله موجود.. وهو إله قادر، ليس مطلوباً من الإنسان إلا أن يتوكل عليه.

 

التعليقات