شوية حرية .. أزهى عصور الركاكة !

قد تعنيني مثل ملايين المصريين مصرية تيران وصنافير ، وقد اشعر مثلهم بالغضب وحرق الدم لتسليمها للسعودية هكذا .. بلا إحم ولا دستور ولا نقاش عام او استفتاء ، ولكن في قلب هذه الازمة - العاصفة ، تزاحمت في عقلي حزمة من الافكار والمشاعر المتضاربة التي اعتبرها - أو بعضها على الاقل - أخطر وأكثر ايلاماً من تيران وصنافير نفسها ، فإذا كنا هنا بصدد الحديث عن ضياع أرض وجغرافيا ، فما  يعنيني أكثر هو ضياع التاريخ والهوية والكرامة الوطنية  ومرمطتهم في وحل الاسلوب البائس والمتهافت الرخيص الذي تعامل به البرلمان - او الحفنة المسيطرة فيه - مع القضية  بهدف تمريرها بين يوم وليلة وبأي ثمن !. وأوجز هذه الخلطة من الافكار والمشاعر فيما يلي :
١- التوقيت : اختيار توقيت طبخ الطبخة وطرمخة القضية في البرلمان ، كان شديد الخبث ولا يخلو من تآمر فاضح على المصريين المشغولين بشهر رمضان .. بعزوماته وموائده ومسلسلاته وواعلاناته وزحامه والتخمة التي تكبس على انفاس الناس في الشهر الكريم . وكل من تابع احالة ملف الاتفاقية للجنة التشريعية في هذا التوقيت عرف على الفور نية الحكومة ومعها فريق الدعم في البرلمان وعزمهما سلق القضية على وجه السرعة ، فليس هناك وقت في العام  لتمرير اي شئ في مصر أفضل من وقت المسلسلات بين الافطار والسحور  ، .. بين خلصانة بشياكة ولأعلى سعر !، وللاسف فإن القضية كانت خلصانة بفجاجة وبدون اي شياكة والتفريط في الجزيرتين لم يكن حتى لأعلى سعر ، بل على العكس كان بأرخص ثمن !.
٢- المهانة : على حد علمي ، لم تشهد الاجيال الحالية حدثاً سياسياً مهيناً ، بمثل الاهانة التي ألحقها بالمصريين برلمانهم العقيم عند تمريره للاتفاقية بهذا الاسلوب الركيك فاقد المهنية والأهلية . اهانة فاجعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البرلمان المصري حتى في عصور الاحتلال . وعلى الرغم من ان كل برلمان جاء في مصر منذ ١٩٥٢ وحتى الان كان تابعاً متواطئاً مع السلطة بشكل أو بآخر ، الا ان مشهد كلفتة الاتفاقية في البرلمان كان قمة في الهزل والهزال السياسي ، يستحق عليه الدكتور على عبد العال أوسكار أسوأ أداء في أسوأ مسرحية سياسية فاشلة كان الممثلون والمخرج والجمهور فيها شخصاً واحدا .. مسرحية عبثية تم عرضها أمام مقاعد خالية وفي غياب الجمهور !.
وانا شخصيا عشت بعضاً من تاريخ برلمانات سيد مرعي ورفعت المحجوب ثم فتحي سرور ، وكانت هناك احداثاً صاخبة من انتفاضات الطلبة الى ثورة الخبز في السبعينات الى إعصار كامب ديفيد في الثمانينات الى فضائح الفساد وجرائم الخصخصة في التسعينات ، ومع ذلك كانت كل طبخة تتم على نار هادئة وكان ترزية القوانين يفصلونها ويمررونها  بمهنية وشياكة !، أما ما حدث في حالة تيران وصنافير فهي الفجاجة والركاكة في أزهى عصورها وأقبح صورها ، .. مسألة بهذه الحساسية الوطنية وقضية أمن قومي من الدرجة الاولى يتم تمريرها بهذا الاسلوب الفاضح بلا خجل وعلى مرأى من العالم الذى يتفرج بذهول على الديموقراطية بالطريقة المصرية .. لا نقاش لا حوار ولا احترام لرأي معارض ، فقط .. اتهامات بالخيانة والعمالة !. ولم أصدق وانا أقرأ دفاع الحكومة عن اتفاقيتها في ملزمة الاجوبة النموذجية التي وزعتها على النواب قبل التصويت ، بقولها ان دماء المصريين في حروب سيناء سالت في كل مكان على ارضها ماعدا تيران وصنافير التي لم يستشهد أحد دفاعاً عنها !.. بالذمة هل رأيتم انبطاحاً أكثر انبطاحاً من هذا ؟!!.
٣- العجز : أما أسوأ إحساس عام سيطر على المصريين خلال الازمة فهو .. القهر ! ، وإن شئت فقل العجز السياسي العام الذي اشتركت فيه الاحزاب مع كل القوى السياسية والحقوقية والنقابات والمثقفين والفنانين الذين كانوا عادة ماتظهر وقفاتهم القوية في مثل هذه الاحداث ، حالة الاحباط والعجز وقلة الحيلة كانت سيدة الموقف رغم بعض البيانات وحملات التوقيعات ، والتغريدات والبوستات الغاضبة على تويتر وفيس بوك ، وفيما عدا محاولات متواضعة لها احترامها للتجمع في نقابة الصحفيين ، فإن ردود الفعل كانت فاترة باهتة لاسباب مفهومة ، بعضها أمني ومعظمها ذاتي ، وكشفت الازمة أن المصريين الغارقين في موسم التبرعات وإعلانات السرطان وأمراض القلب والغارمات ، يعيشون في واد، وقصة الجزيرتين في واد آخر ، والأخطر .. أن السياسة ماتت إكلينيكياً في مصر !.
٤- الهروب : وهو أسوأ تداعيات الازمة - في رأيي- ، فإذا كانت السنوات الأخيرة قد شهدت إنسحاب قطاعات كبيرة من الشباب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام من الساحة السياسية ، وإذا كانت هذه السنوات هي الأكثر إندفاعاً نحو الهجرة أو السفر للعمل أو للحياة خارج البلاد ، فإن الاسلوب المنفر والمستفز الذي أدارت به الحكومة وبرلمانها هذا الملف سياسياً وإعلامياً، كشف عن نية مبيتة لإلغاء وإقصاء المعارضة في مصر وعن رغبة مرضية في الإنفراد بالقرار واحتكار الفضاء العام ، والمزعج في الأمر أن حالة الانسحاب السياسي والعزوف عن المشاركة تمتد وتنتشر في البلد بينما نحن على أعتاب إنتخابات رئاسية يفترض أن تشهد جدالاً وحيوية سياسية ومشاركة كل القطاعات ، والخوف هنا أن تتعرض هذه الانتخابات لنوع من المقاطعة غير المباشرة ، تصل الى حالة من اللامبالاة التي من شأنها إثارة الغبار حول شرعية الكثير مما يجري في مصر ، وبما يحيط العلاقة بين النظام والنخبة بمزيد من الشكوك في ظروف إقتصادية صعبة تحتاج فيها البلاد إلى أقصى درجات الثقة والشفافية ، خاصة ونحن مقبلين على مرحلة اصلاح إقتصادي قاسية وفقاً لشروط المانحين .
... ومرة أخرى ، إذا كانت تيران وصنافير قضية أرض ، هي الآن في ذمة أجيال قادمة تستطيع أن تستعيدها ممن فرطوا فيها ، فإن قضية جيلي اكثر قسوة وحزناً ، لأننا عشنا أياماً مجيدة ،وإن كانت قليلة ، رفض المصريون فيها التفريط في حبة رمل من  سيناء أو نقطة ماء من النيل ، الآن نحن  عشنا وشفنا أن الكلام عن الأرض خيانة ، وأي رأي عكس التيار عمالة !، والمفجع الموجع جداً أن ينفجر كل هذا القبح في وجهك دفعة واحدة ، .. وأن ترى في كل هذا الزحام .. لا أحد !.⁠⁠⁠⁠

التعليقات