عتقى.. ورِقّى!

أبوذر الغفارى واحد من أقدم من تبنوا فكراً ورؤية ثورية فى تاريخ الإسلام. وتقديرى أنه كان وحيداً ما بين الصحابة فى ذلك، حتى ظهر أنداد له يتبنون نفس الفكرة والرؤية. وتفرد أبى ذر لمحة جوهرية من ملامح شخصيته. التقطها النبى صلى الله عليه وسلم عندما كان جالساً بالمدينة ذات يوم مع عدد من الصحابة فلمحوا شبحاً عن بعد يتعثر فى مشيته، فتساءل الصحابة: من الرجل؟!. فإذا بالنبى يقول بعبارة بليغة: «كن أباذر»، ولما اقترب الشبح من القوم واستبانت ملامحه كان «أبوذر»، فقال النبى: «هذا أبوذر يأتى وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة أمة وحده». وكأن أباذر كان تكراراً لنموذج نبى الله إبراهيم - عليه السلام - الذى وصفه الله تعالى فى القرآن الكريم بـ«الأمة»: «إن إبراهيم كان أمة»، لأنه عاش موحِّداً بين مجموعة من المشركين.

كان أبوذر رضى الله عنه ممن يؤمنون بالمعارضة بالقول، ولم يكن من المحبذين لفكرة الخروج على الخلفاء. لم يرضَ بسياسة عثمان بن عفان التى انتصرت لأصحاب المال والقرابة، فأطلق لسانه فيه واتهمه بالانحراف عن نهج الشيخين أبى بكر وعمر، ويقال إنه دفع ثمن نقده لعثمان، حين قرر الخليفة جلده وفعلها. هناك من ينكر هذه الواقعة وهناك من يثبتها من المؤرخين، لكن يبقى أن أباذر كان ينقد سياسة عثمان وأداءه، لكنه لم يدعُ إلى الخروج عليه. ولما ضاق به المقام إلى جوار عثمان استأذنه فى الخروج إلى «الربذة» شمال المدينة المنورة، حتى ينأى بنفسه عن واقع لا يرضيه، ويخلو إلى ربه، ويقول كلمة الحق حين يسأله الناس.

أراد عثمان شراء رضاء أبى ذر بأى طريقة من الطرق، خصوصاً بعد أن اشتكى له معاوية من سلاطة لسانه، فأرسل إليه بصرّة فيها مال على يد عبد له، وقال له: إن قَبِلها منك فأنت حر. ذهب العبد إلى حيث يعيش أبوذر، فأتاه بها، فلم يقبلها، فقال له العبد: اقبلها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقى، فرد عليه قائلاً: «إن كان فيها عتقك، ففيها رِقِّى»، ولم يقبلها منه. تلك هى الثنائية الكبرى فى حياة البشر «العتق والرق». أكثر الناس يستسلم لفكرة الرق للأشياء وللمحيطين به، الرق هنا لا يعنى المعنى المباشر بأن يصبح الإنسان «عبداً» مملوكاً، بل له معانٍ أخرى عديدة، فهناك من تسترقّه ظروفه، وهناك من يسترقّه أبناؤه، ومن يسترقّه عمله، ومن يسترقّه ماله، ومن يسترقّه أمله وطموحه، بل هناك من تسترقه زوجته!. فى كل الأحوال لكل إنسان فى هذه الحياة نقطة ضعف معينة يمكن أن تصبح باباً لاسترقاقه، وذلك ما كان يفهمه أبوذر جيداً، ووجد أن النجاة من ذلك لا تكون إلا بالابتعاد عن دنيا الناس المفعمة بالآمال والأمنيات والرغبة فى حصد المكاسب، ففر بحريته إلى «الربذة»، ومع ذلك لم يتوقف الخليفة عن محاولة إرجاعه عما فى رأسه ليصبح مثل غيره، فبعث إليه بعبد يحمل «صُرّة مال» يستحلفه بالله أن فى قبولها «عتقى» فأجاب أبوذر إجابته العبقرية بأن فى قبولها «رِقّى»!.

التعليقات