شوية حرية.. موت السياسة وقتل النخبة!

أخطر ما يمكن أن يعاني منه أي نظام سياسي هو انهيار الكتلة الصلبة التي تحميه عند اللزوم من العواصف!
وإذا كانت هذه الكتلة في مصر تتشكل من القاعدة الشعبية العريضة، فإنها الآن في طريقها للتداعي التام، مع انها كانت في يوم من الأيام هي حائط الصد المنيع الذي حمى البلاد ونظام ما بعد 30 يونيو في مواجهة أخطر الأزمات.
وبعد الارتفاع المخيف في الأسعار (65% في 6 شهور) بما لا يحتمله أي مجتمع في الدنيا، وبعد سلسلة جراحات سياسية أخرى مؤلمة، أكبرها تيران وصنافير التي مازالت دماءها لم تجف، فإن النخبة السياسية ايضاً انفرطت وتبددت من حول النظام وانضمت للمطحونين تحت عجلات ما يسمى بـ "الاصلاح الاقتصادي" ليعلن الاثنان في لحظة كئيبة من عمر هذا الوطن موت الاقتصاد والسياسة معا في مصر!
وما أعنيه بموت الاقتصاد تحديداً هو غياب الرؤية الشاملة بما فيها من أبعاد اجتماعية وانسانية عند تنفيذ جراحة "الاصلاح" التي تتم بمنتهى القسوة والفظاظة فقط لارضاء الصندوق والمانحين حتى لو مات المريض من شدة النزيف.
أي فكر اقتصادي هذا الذي يقتل المريض وهو يعالجه؟!
إن أي حديث عن القائمة الطويلة للانجازات التي تحققت في وقت قياسي، طرق ومدن جديدة وكباري إلخ.. لن نقنع رب أسرة متوسطة اضطر ان يبيع سيارته ليدفع قسط مدرسة ابنته ودروسها الخصوصية!
وفي أي مجتمع إذا انهارت الطبقة الوسطى (حامية الاستقرار) التي تقف في طوابير الانتخابات لتعطي صوتها للدولة، فإن المجتمع كله ينهار، ومظاهر الانهيار عديدة تبدأ بالسخط على الحكومة ثم تتحول إلى السخرية المريرة منها، كما حدث بعد رفع أسعار البنزين، ثم الغرق في التفاهة والبذاءة، كما حدث على السوشيال ميديا مع فيديو غادة عبد الرازق!
وهذه الطبقة التي يتم اهمالها ودهسها ببشاعة، لن تجدها الدولة عندما تحتاجها بعد عدة شهور لتدعم "الاستقرار" في الانتخابات الرئاسية القادمة، ويخطئ من يظن أن خلو الساحة من المعارضة ، وأن حالة الانفراد بالسياسة وتطفيش السياسيين سوف يجعل هذه الانتخابات تمر مرور الكرام، على العكس تماما فإن الضمانة الوحيدة لأي انتخابات هي الديموقراطية وحضور الطرف الآخر بقوة في منافسة حقيقيةو نزيهة أمام العالم . أما المشهد الراهن في مصر والذي تبدو فيه السياسة وقد ماتت بالسكتة الأمنية، والذي يبدو فيه السياسيين وكأنهم يأسوا وفقدوا الأمل، والذي تبدو فيه الأحزاب وكأنها "ديكور قديم" أو خيال مآتة وبيوت أشباح، هذا المشهد لا يفيد النظام ولا يجب أن يسعد به المدافعون عنه باستماتة وبغشومية، ولا يجب أن يطمئن له الرئيس السيسي عندما يعلن رسميا عزمه على خوض انتخابات الرئاسة لفترة ثانية، فليس في صالحه ولا في صالح البلد موت السياسة وقتل النخبة السياسية وانسحاب المثقفين وأهل الرأي من العمل العام.
وعيب في حق هذا النظام أن تعيش مصر بلا أحزاب وبلا حياة سياسية. ومن المرعب أن يكون اللاعبون الوحيدون على الساحة هم السلفيين بأحزابهم التي نشأت في عهد الاخوان وبجمعياتهم وزواياهم  ومنابرهم الاعلامية، إن هؤلاء المسموح لهم قانوناً بحرية الحركة هم أول من سيلتهم ذراع النظام عند هبوب العاصفة.
وعيب ،أن تتحول بعض الاحزاب إلى دكاكين أمنية مهمتها التهليل للسلطة وقمع المعارضين عند الحاجة، ومن المسئ لسمعة البلد أن يتحول نواب هذه الأحزاب في البرلمان إلى أشباح لا تفعل شيئا غير التصفيق، فلا نسمع منها رأياً أو موقفاً أو نقداً للحكومة أو استجوابا لوزير!
موت السياسة وتخوين المعارضة وإقصاء النخبة،  يحول مصر إلى بلد بلا روح ولا طعم ولا ألوان .  الألوان المتعددة هي التي تعطي شكلا للحياة، واللون الواحد الوحيد مهما كان براقاً وفاقعا سيصيب الناس  بالكآبة بعد حين .
وعيب ،  ألا يجد النظام من يدافع سياساته غير بعض الوجوه المحروقة الفاشلة في التسويق.. وحتى في الكتابة والاملاء!
والنظام الذكي هو من لا يحرق جسوره مع الجميع مرة واحدة، ولا يجعل ظهره مكشوفاً عند الحاجة لغطاء سياسي أو إقناع لجماهير الشعب بسياساته. ويكفي أن البلد تعيش تقريبا بلا برلمان حقيقي، وأن السيرك الذي يقوده الدكتور علي عبدالعال فشل حتى في تقديم شو سياسي مقنع ،وبدا أن البرلمان مجرد جهاز ملحق بالحكومة، يمرر سياساتها ومشروعاتها بدون نقاش أو تصويت نزيه وشفاف.
ومن الخطير جداً أن ينتشر الاحساس بالكآبة بين الناس وأن يتفشى الشعور بعدم جدوى السياسة والمشاركة ، وأن يخلو الفضاء العام من صناع الأمل ومن الرموز القادرة حتى على إنصاف الدولة وإقناع الناس بأن يتحملوا مصاعب المعيشة وأن يشربوا الكأس المر لأن هناك ضوء في آخر النفق.
النظام الذكي هو من يجتمع حوله حتى المختلفين معه، وأن يفتح باستمرار نافذة للحوار مع معارضيه، وألا يحطم المعبد كله على رؤوس الجميع ، والذي لايتوهم انه هو الوحيد الذي يملك توكيل مستقبل البلد  . وعند هذه اللحظة سوف يكتشف انه يقف وحيدا . يحاور نفسه وينافس نفسه ، وأنه في واد ، والشعب في واد آخر !.

التعليقات