المظاهرات التركية الكل كسبان.. عقبال عندنا

 

(1)
«الربيع التركى»، هكذا شبه أحد الإعلاميين المظاهرات في تركيا، وصور للمشاهدين أن الشعب التركى على وشك الثورة على أردوغان، كما استضاف أحد نشطاء المعارضة التركية في مداخلة تليفونية، الرجل وصف حال تركيا في ظل أردوغان وكأنه يتحدث عن مصر بالتمام والكمال: تضييق مساحة حرية التعبير، إغلاق صحف وقنوات المعارضة، السيطرة على الإعلام بكل أشكاله، ومذيعنا إياه يستمع ويهز رأسه متعجبا من الزعيم الذي يريد أن يسترجع مجد سلاطين آل عثمان وأسلوبهم في الحكم رغم أننا في القرن الحادى والعشرين..!! مذيع آخرعلق على المظاهرات، التي وصفها بالمليونية على عكس كل وسائل الإعلام الغربية المحترمة والمشهود لها بالدقة والمهنية، قائلا :«الظلم يولد الانفجار مهما كان التقدم الاقتصادي». في حالة الظلم من غير تقدم اقتصادى ستصبح النتيجة كارثية: انفجار «دوبل» .

الصراحة لم أفهم الرسالة المراد توصيلها، هل المذيعان يوافقان على المظاهرات السلمية بصفة عامة؟، على اعتبار أنها حق دستورى مكفول للمواطن للتعبير عن الرفض والمعارضة للنظام الحاكم، أم أن الترحيب قاصر على كونها في إسطنبول وليست في القاهرة؟

 

(2)
لا أظن أن أحدا يختلف على أن أردوغان حاكم مستبد، ولقد خلع كل أقنعة الديمقراطية بعد فشل الانقلاب العسكرى في يوليو من العام الماضى، حيث توسع في البطش بمعارضيه، خاصة من لهم صلة ولو بعيدة بغريمه فتح الله كولن الذي اتهمه بتدبير الانقلاب من منفاه في أمريكا، حتى احزاب المعارضة التي ساندته، ورفضت الانقلاب وتمسكت بالحكم المدنى نالها منه نصيب من التقييد والتضييق، ولم يشفع لها عنده موقفها المؤيد له، فلم يعد يطيق سماع صوت معارض، شأن جميع الحكام المستبدين، وهو في ذلك يستند إلى أغلبية برلمانية واستفتاء شعبى على تغيرات دستورية توسع صلاحيات الرئيس.

 

عيوب أردوغان تقابلها صفات تخفف من وطأتها، فهو شخصية برجماتية، شديد الذكاء والمرونة تجاه العقبات التي تواجهه، يعرف كيف يناور للحصول على ما يريد، وهو سياسى محنك وصل لمقعد الرئاسة بعد محطات مهمة أهلته لهذا المنصب، وهو يعرف جيدا كيف يخاطب الشارع التركى ويقوده وأيضا يلاعب خصومه ومعارضيه وهى خبرة قد يكون قد اكتسبها من الفترة التي كان فيها لاعب كرة قدم أو لعلها موهبة ومنحة ربانية.
(3)
المسيرة المعارضة التي وصلت مؤخرا إلى إسطنبول، وضمت 100 ألف مواطن حسب تقدير البى بى سى، بدأت منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، قطع خلالها المتظاهرون مسافة 400 كيلومتر، تقريبا، بدأوها من أنقره حتى إسطنبول. «كمال قليتش أوجلو» زعيم المعارضة في البرلمان التركى وزعيم حزب الشعب الجمهورى، المنظم للمسيرة ـ اطلق عليها اسم «مسيرة من أجل العدالة» وهى تأتى لمساندة النائب الجمهوري، أنيس بربر أوجلو، الذي حكم عليه بالسجن لـمدة 25 عاماً، بعد إدانته بتسريب شريط فيديو لصحفي معارض يظهر إرسال تركيا أسلحة إلى سوريا. ولقد صرح أوجلو لوكالات الأنباء: «إن تركيا لم تعد دولة ديمقراطية، حيث أصبحت في يد رجل واحد، وهذا غير مقبول»، المشاركون في المسيرة جميعهم من معارضى أردوغان، ولقد أعلنوا أنهم فعلوا ذلك دفاعا عن حقوقهم وعن القانون والعدالة.

 

تأتى هذه المسيرة بعد عام واحد من الانقلاب العسكري الفاشل الذي تسبب بإحداث تغيير جذري في تركيا، وأدى إلى فرض أردوغان وحكومته قيودا على المؤسسات العامة والجامعات ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى اعتقال عدد كبير من النشطاء والصحفيين والمعارضين السياسيين.
(4)
السؤال الذي كان من المفروض أن يسأله المذيع الذي عرض علينا مشاهد «الربيع التركى»: لماذا لم تتصد الشرطة التركية لهذه المسيرة الضخمة؟ ولماذا سمح أردوغان بها وهو المستبد ،القابض بيد من حديد على كل مفاصل الدولة الآن؟.

أعتقد، أن أردوغان لاعب ماهر وماكر، يدرك أنه من الغباء السياسى أن يتم القضاء على المعارضة بالضربة القاضية، لابد أن تظل هناك جولات بينه وبينها لتستمر اللعبة، كما أن هامش التنفيس مطلوب طالما النتائج محسوبة والمخاطر محدودة، وخاصة أن منظمى المسيرة أعلنوا أنها سلمية، وسارت في حماية الشرطة، التي كان واجبها التصدى لأى تهديد قد تتعرص له، حتى لو جاء من جانب مؤيدى أردوغان وهم الأكثر عددا وعنفا، ولقد تم السماح بتغطيتها إعلاميا بشكل مكثف.. ومن المنتظر أن تنتهى كما بدأت: سلمية...والجميع خرج منها منتصرا.

 

أردوغان الذي ترك المعارضة تعبر عن نفسها وكأنه رئيس ديمقراطى يحترم ويحتمل المعارضة السلمية، الشرطة التي استعادت وظيفتها الأصلية حماية الشعب وليس النظام، أحزاب المعارضة التي أظهرت قدرتها على الحشد، المواطنون المعارضون، الذين أثبتوا أنهم قادرون على تحمل مشقة السير لمسافة 400 كيلومتر على مدى 3 أسابيع رغم حرارة الجو، وهو الأمر الذي سيجعل لمسيرتهم قيمة كبيرة، وذكرى ودليل على قدرة المواطن على التصدى للدفاع عن الحقوق والقيم رغم المشقة.
(5)
طبق أردوغان البرجماتى، القاعدة الرابعة من نصائح ستيفن كوفى في كتابه الأشهر العادات السبع لنجاح الناس الأكثر فاعلية، وهى: الكل فائز (المكسب المشترك).من يريد أن يستمر على رأس السلطة عليه أن يفكر في الآخر حتى لو كان معارضا له وأن يترك له مساحة للحركة ولا يحبسه في ركن كفأر مذعور، وأن يتعامل مع المتغيرات على الأرض بمرونة وفاعلية ،من أراد أن يطاع فعليه أن يعرف كيف يأمر؟أي نظام حكم يتصور أن الانتصار على معارضيه بالضربة القاضية دليل قوة، فهو واهم وقليل الخبرة والحكمة.
المعارضة جزء أصيل من لعبة السياسة والحكم، لاتوجد لعبة بلاعب واحد، لابد أن يكون هناك طرفين يتنافسان، ما يحدث في مصر الآن من إعدام للمشاركة السياسية العلنية، والتضييق على حرية التعبير ومنع التظاهرالسلمى واعتقال النشطاء السياسيين وأعضاء الأحزاب، سيحول المعارضة العلنية إلى معارضة سرية، وكل ما هو خفى يصعب التعامل معه والتنبؤ بردود أفعاله، فيمكن أن يتحول إلى التطرف والمبالغة، وبذلك يتحول النظام الحاكم الذي يقدم نفسه كمحارب لظاهرة الإرهاب والتطرف إلى نظام يساعد الإرهاب والتطرف على الانتشار.
 
التعليقات