شوية حرية .. كشك .. لكل مواطن !

للأسف كنت أتمنى أن تجد عاصفة الرفض التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ضد حكاية أكشاك الفتوى التي تبنتها وزارة الأوقاف مع الأزهر صدى لها في الشارع بين ملايين المصريين المحاصرين في كل  مكان بفتاوى الحرام والحلال .

 

فتوى بالمقاس وحسب الطلب لكل مواطن ، في الأكل والشرب والملبس، والزواج والطلاق، والنكاح والوضوء، والأحلام والصيام  والكلام، ودخول الحمام والاستحمام، وشغل النساء والسلام على الرجال،والسلام على الاقباط ،  ولبس الحجاب، وخلع الحجاب وأغاني أم كلثوم وأفلام السبكي! 
إن المصريين يستيقظون في الصباح بفتوى، وينامون بفتوى، ولا أظن أن فيضان السخرية الذي أغرق الفيس بوك بعد الإعلان على أكشاك الفتوى التي تقررإقامتها في محطات المترو، يمكن ان يقنع  الاغلبية الساحقة من المصريين بالإقلاع عن إدمان الفتوى وطلبها من أهلها أو من غير أهلها ممن امتهنوا تقديمها أحيانًا "ديليفري"بالهاتف  أو عبر الانترنت ، أو في الدكاكين المنتشرة في الفضائيات !.
إن أكشاك الفتوى موجودة في محطات التلفزيون قبل محطات المترو بسنوات طويلة، وهي تحظى برعاية الدولة والقائمين على الإعلام الرسمي والخاص، وهي فتاوى مثيرة وجاذبة للمشاهد والمعلن على حد سواء، وما عليك إذا كنت تمتلك قناة فضائيةكبيرة اوتحت بير السلم ،  إلا أن تأتي بداعية شاب أو شيخ أزهري لتعلن عن برنامجه في لافتات على الطريق الدائري، ثم تضعه على الشاشة لتنفتح عليه ماسورة الاتصالات التليفونية على الهواء، من اسئلة عن إرضاع الكبير إلى زواج القاصرات والأطفال إلى السحر، وفك الأعمال والطلاق وخيانة الازواج ، وهناك فتاوى بعد منتصف الليل،.. وهذه للكبار فقط !.
واخترعت مصر احدث موضات الدعوة و الفتوى  وصدرت نجومها للخارج، فهذا الداعية العصري، وهذا الشيخ أبو دم خفيف، وهذا المتساهل السمح، استفتي قلبك، وهذا أبو بدلة وكرافتة، وهذا داعية البنات المتخصص في قصص الحب وفتاوى المراهقين.
وانطلقت موضة برامج الفتوى ،  وعبر الإنترنت  من مصر على يد أزهريين أو مدعين، وانتشرت تحت سمع الأزهر ومؤسساته ولم يعمل على وقفها لأنها كانت في الحقيقة سبوبة لعشرات من كبار وصغار المشايخ.
إن ظاهرة الفتي التي اجتاحت المجتمع المصري منذ صعود نجم الشيخ الشعراوي الذي تبنته ولمعته واستوزرته الدولة، هي في جوهرها أحد ملامح الدولة السلطوية التسلطية التي استأثر فيها الأزهر ورجاله بحمل الأختام المقدسة لممارسة سلطة التحريم، والتحليل لكل سلوكيات الناس ومعاملاتهم، والفتوى بهذا المعنى تحولت على يد العديد من المشايخ إلى تجارة حقيقية تدر أرباحا طائلة، ولهذا فإن "كشك الفتوى" في المترو، لا يختلف من حيث الشكل عن السوبر ماركت أو عن مطاعم الوجبات الجاهزة.
والمفجع في فكرة أكشاك الفتوى التي ستقوم بتقديم الفتاوى "المعلبة" للناس ، أنها تعكس حالة مخجلة من الإفلاس والترهل الفكري والثقافي في ظل حكومة عاجزة بكل مؤسساتها وإعلامها وتعليمها وخطابها الديني عن حماية شعبها من التضليل والشائعات والفكر المتطرف العنيف، ولم تجد حلا للتواصل  مع الناس وتوعيتهم إلا بإقامة أكشاك في محطات المترو تنادي على الركاب مثل الباعة الجائلين "اللي عايز فتوى".. !
إن أوروبا في لحظة انهيارها التام وسط الدمار الذي لحق بها بعد الحرب العالمية الثانية، لم تجد غير التعليم والعلم والفكر والثقافة لإنقاذ شعوبها من الضياع في متاهات الاتجاهات العدمية والانعزالية والعنصرية والعنف الطبقي ، وأذكر أن اثنين من فلاسفة هذه الفترة الصاخبة دخلا في مناظرة حامية ظهرت في كتابين أحدهما يتهم الاخر بـ"فقر الفكر" فرد عليه الثاني بكتاب "فكر الفقر"، والحقيقة إن ما نشهده في مصر من إفلاس فكري وتفسخ ثقافي وتخلف اجتماعي هو ما ينطبق عليه تماما كلا التشبيهين من فقر للفكر وفكر للفقر.
ولا أتصور كيف تسمح دولة لمؤسسة  واحدة بأن تكون لهاسلطةالسيطرة على عقول الناس وتوجيههم بدون اي ضوابط، وإذا كان هذا يحدث لعموم المسلمين، فماذا عن المصريين الأقباط، هل تسمح الحكومة للكنيسة ببناء أكشاك في محطة السيدة زينب مثلا بينما يسمح بكشك فتاوى المسلمين في محطة ماري جرجس؟!
إننا عشنا سنوات طويلة نهاجم الخطاب الديني لجماعة الإخوان، ونرفض محاولاتهم لتديين كل شيء حتى توهمنا بعد خروج الشعب في ٣٠ يونيو ضد "حكم المرشد"، إننا أسقطنا شعارهم المنافق والمزيف "الإسلام هو الحل"، فإذا بنا نعود للشعار بقوة الوزارة وبسلطة الأزهر لتصبح الفتوى هي الحل.. والكشك هو البديل للإصلاح الحقيقي، والشامل للتعليم، والإعلام والخطاب الديني !!                        ⁠⁠[4:0
التعليقات