رسالة ما جرى .. في «القدس»

لا أعرف إن كانت هي بواكير «انتفاضة جديدة» كما قال مبكرا أحمد الطيبي، النائب العربي في الكنيست، أو أن الأمر سينتهي عند ما جربناه لعقود من «الحركة في المكان»، ولكني أعرف أن ما جرى على أبواب الأقصى كشف هشاشة مشروع الواهمين بأن «الصفقة» يمكن أن تمر. وبأن السلام يمكن أن يتحقق «بلا عدل».

نجح فلسطينيو القدس في إعادة ترتيب أرقام المعادلة الشرق أوسطية التي أراد لها الكثيرون ــ أو رَضوا ــ تواطؤا أو عجزا، أن تصبح قائمة على الهيمنة الإسرائيلية المطلقة

في ٢٢ يناير ٢٠١٧، وقبل أسابيع من تأكيد الرئيس المصري على إعجابه بالرئيس الأمريكي الجديد؛ دونالد ترامب، وعلى ثقته في قدرته على عقد «صفقة القرن»، حلا لقضية القرن، اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحكومته وقال لهم إنه لا يريد دولة كاملة للفلسطينيين بل دولة ناقصة State–minus.

كما لا تعرف أدبيات السياسة تعريفا محددا لما يقصده رئيس الوزراء الإسرائيلي «بالدولة الناقصة»، وكما لا يمكنك التكهن بما سيغرد به الرئيس الأمريكي بعد منتصف الليل، لا توجد أفكار معلنة حول ما قصده الرئيس المصري يومها بـ«صفقة القرن»، ولا بمن هم أطرافها، الأمر الذي كان من شأنه تلقائيا أن يفتح المجال واسعا لعلامات استفهام معلقة وسط حالة سيولة إقليمية غير مسبوقة تذكرنا ــ دون مبالغة ــ بما كان في أعقاب الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٨).

لا توجد أفكار «معلنة» واضحة. بل تخوفات مشروعة، وبالونات اختبار إسرائيلية مقلقة، وتسريبات عن لقاءات تطبيع (وتنسيق) عربية إسرائيلية. فضلا عن خطوة «متعجلة» غير مفهومة لترسيم الحدود بين مصر والمملكة السعودية، تضرب «الأمن القومي العربي» الذي نعرفه في مقتل، ويتحقق بمقتضاها للدولة العبرية، دون طلقة واحدة مكسب «استراتيجي» كبير فشلت في تحقيقه بكل ما تملكه من أسلحة، وبعد كل حروبها الدامية مع مصر.

وسط ما بدا أنه قادمٌ «هرولة» حسب التعبير الشهير لعمرو موسى، ووسط تمهيد إعلامي عربي «ناعم»، تواكب مع طوفان من تغريدات ومقالات إسرائيلية تتحدث عن «ربيع علاقات» إسرائيلية عربية، جرى ما جرى في القدس.

لست متفائلا كأولئك الذين يعتبرونها استعادة «للانتفاضة الثالثة»، ولكني أدرك أن «الرسالة وصلت». وأن ما جرى على أبواب الأقصى كشف هشاشة مشروع الواهمين بأن «الصفقة»؛ بالمفهوم الذي يمهد له البعض يمكن أن تمر. وبأن السلام يمكن أن يتحقق «بلا عدل»، أى مع بقاء الأمور على ما هي عليه (قفزا على الحقائق) وأن حملات إعلامية لغسيل المخ يمكن أن تُخرج إسرائيل (الصهيونية) من خانة الأعداء «لنتحالف معها جميعا» في مواجهة العدو البديل؛ إيران أو الإرهاب.

لم تعبأ حقيقة أن «ثالث الحرمين الشريفين تحت الاحتلال»، بكل المعارك الصغيرة التي شُغلنا بها، أو انجرفنا إليها. فما إن اشتعلت مواجهات الأقصى حتى بدا بوضوح أن «الأقصى أولا»، في الضمير الجمعي لهذا وذاك، مهما تنابزوا بالألقاب، وحتى لو اختفت الخناجر تحت العباءة، كما يقول نزار قباني الراحل في مرثيته الشهيرة.

بدا «الأقصى أولا»، مهما استُقطب المصريون، ومهما أربكهم إعلامهم «الموجه»، ومهما وصل الاستقطاب ببعضهم إلى أن ينكر أن الشمس تطلع بالنهار.

بدا أن «الأقصى أولا» مهما تقافزت من معاجمنا مصطلحات الطائفية، ومهما تكاثرت في خطاباتنا اتهامات العمالة والخيانة والإرهاب. ومهما تلبدت سماؤنا بغيوم خطاب الكراهية.

ثم كان الأهم أن نجح فلسطينيو القدس في إعادة ترتيب أرقام المعادلة الشرق أوسطية التي أراد لها الكثيرون ــ أو رَضوا ــ تواطؤا أو عجزا، أن تصبح قائمة على الهيمنة الإسرائيلية المطلقة.

نجح المقدسيون في تذكير الجميع بحقيقة أن الوعي الجمعي الفلسطيني (وربما العربي) لم يخب بعد، على الرغم من كل تحديات التشويه الإعلامي الممنهج. وأن السلام «العادل» وحده، لا صفقات «تطبيع الأمر الواقع» هو الكفيل باستقرار حقيقي، لا تختفي فيه النيران تحت الرماد.

نجح فلسطينيو القدس، في تذكير أولئك الذين لا يتورعون عن المتاجرة بكلمة «الإرهاب» سلعة مضمونة التسويق بأن «مقاومة قوات الاحتلال»، ليست إرهابا بل فعلا مشروعا في كل القوانين والأعراف الدولية. اقترفه الأوروبيون حين كانوا يقاومون النازي، واقترفه المصريون أنفسهم مائة مرة في تاريخهم الحديث مقاومة للمحتل؛ مستعمرا كان أو إسرائيليا صهيونيا.

ثم كان أن نجح الفلسطينيون «العزل» وحدهم في أن يجبروا الآلة العسكرية الإسرائيلية على التراجع (ولو إلى حين).

لا أحد يجادل فى مقدرة «السمسار» على عقد الصفقات، ولكن يظل الإقدام على غلق ملف الصراع ــ بهرولة تطبيع أو تغيير لعقيدة الجيوش، أواستباقًا لصفقة غير محددة الملامح ــ ضربًا من القفز فى المجهول يتجاهل ما لا يصح تجاهله من اعتبارات الأمن القومي
لم تكن المراهنة على سمسار البيت الأبيض دونالد ترامب أولى المراهنات على حل أمريكي «لقضية العرب الأولى»، فالتفاؤل (المَرضي) بما يعد به حواة واشنطن، الذين وضعنا في أيديهم مبكرا ٩٩٪ من أوراق اللعبة ليس جديدا، فجورج دبليو بوش (الجمهوري المتعجرف) الذي ورثه حرفيا دونالد ترامب، كان قد أعلن «رؤيته» في ٢٠٠٢ واعدا العرب بدولة فلسطينية في ٢٠٠٥، ثم كان أن ترك البيت الأبيض في يناير ٢٠٠٩ دون أن تنبلج «رؤيته» عن نهار. بالضبط مثلما كان حال كل المحاولات والمبادرات التي افتقرت إما إلى الإرادة «أو العدل».

لا أحد يجادل في مقدرة «السمسار» على عقد الصفقات، ولكن يظل الإقدام على غلق ملف الصراع، بهرولة تطبيع أو تغيير لعقيدة الجيوش (مراهنة على مقدرته على حل «قضية القرن»، أواستباقا لصفقة غير محددة الملامح) ضربا من القفز في المجهول يتجاوز حدود الواقع، فضلا عن التاريخ. فكل مطلع على التاريخ «الدبلوماسي» للصراع العربي الإسرائيلي يعلم كم ازدحم ملف «قضية القرن» تلك على مدى عقودها السبعة بالاتفاقات والمعاهدات والخطط والمبادرات والخرائط والتفاهمات، وكم أُرهقت ذاكرة متابعيها بأرقام قرارات وتوصيات وأسماء مدن وعواصم ومؤتمرات. وفي النهاية.... لا شيء.

هل تذكرون ١٨١ الذي يتناساه الجميع و٢٤٢ الذي أدمن التواجد في كل تصريح ووثيقة و١٩٤ الخاص باللاجئين؟ وهل تذكرون مدريد، أوسلو، واشنطن، كامب دافيد، بلير هاوس، شيبرز تاون، جنيف، شرم الشيخ وطابا.

وهل تذكرون توصيات ميتشيل (أبريل ٢٠٠١) وتفاهمات تينيت (يونيو ٢٠٠١) واتفاقات شرم الشيخ (سبتمبر ١٩٩٩ وأكتوبر ٢٠٠٠) والقاهرة (مايو ١٩٩٤) وواي ريفر (أكتوبر ١٩٩٨). وهل تذكرون مسارات مدريد ولجانه متعددة الأطراف. وهل تذكرون أن اتفاقات أوسلو ١٩٩٣ كانت تنص على مرحلة انتقالية لمدة خمس سنوات (تنتهي في ١٩٩٩) تمهد لتسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الأمن ٢٤٢و ٣٣٨ وذلك بافتراض أن المفاوضات حول الوضع النهائي تكون قد بدأت وانتهت أثناء فترة السنوات الخمس الانتقالية.

كل هذا.. وماذا بعد؟

لا شيء. غير فرض حقائق الواقع الاحتلالية على الأرض، تهويد القدس، ومزيد من المستعمرات / المستوطنات وآلاف الأفدنة من الأراضي المصادرة، وأشجار الزيتون المحترقة، وجدارٍ مكهرب. ومزيدٍ من الشهداء، وبالطبع مزيد من مشاعر الإحباط والكراهية والدماء (هنا وهناك). ومزيدٍ من الدموع والهتافات وطوابير الجنازة.

هل هذا فقط؟

لا.. فهناك أيضا المزيد من الأوراق والخرائط والخطط التي تحمل اسم السلام أو أسماء أصحابها. بدءا من آرثر داكهوب (١٩٣٤) وإلى رؤية بوش (٢٠٠٢) مرورا بالكتاب الأبيض (١٩٣٩) وبرنادوت (١٩٤٨) وتيتو (١٩٦٣) وأبا ايبان (١٩٦٨) وجون فوستر دالاس (١٩٥٥) وكارتر (١٩٧٧) ورونالد ريجان (١٩٨٢).. وغيرهم كثير.

هل يختلف الأمر هذه المرة؟ فيصبح من حق هذا وذاك إغلاق الملف؟ نظريا ربما، ولكن أرجوكم انظروا جيدا لما يفعله الإسرائيليون على الأرض. وقبل أن تحاولوا فهم ما كان يقصده نتنياهو بحديثه عن «الدولة الناقصة»، أعيدوا قراءة تصريحات دونالد ترامب «المعلنة» عن الإسرائيليين، والفلسطينيين، والمسلمين، والعرب.. وبالطبع عن «القدس»

«التهافُت على السـلام»، والتعبير لمحمد حسنين هيكل في كتابه «نهايات طرق» لا يصنع وحده سلاما، واسترضاء العَـدُو «بأي ثمن» هو في نهاية المطاف أقرب الطرُق إلى الحرب؛ «لأن التهافُت على الطلب مثـير للطمَع، ولأن الغاية النبيلة لا تُحَقِّقها وسيلة ذليلة. فأول قوانين الصراع أنه حين يرضى طرف لنفسه أن يَستَخذي فإن الطرَف الآخر مدعو لأن يَستَقوى، وتلك طبائع أشياء قبل أن تكون قوانين صراع».

قرأنا في التاريخ أن رئيس وزراء بريطانيا سنة ١٩٣٨ «تشمبرلين» لم يكن يُدرك وهو يحمـل مظلَّته الشهيرة ويطير لمقابلة الزعيم الألماني «أدولف هتلر» في «ميونيخ» ويعود من هناك ليُبَشِّـر الشعـب البريطاني (وشعوب أوروبا) بـ«السـلام في زماننـا» ـ أن «ميونيـخ» كانت «نهاية طريـق» ــ وأنه بوَهـم صُنـع «ما توهمه سلاما» ـ فتح الباب واسعا للحـرب العالمية الثانية، لأن «هتلـر» ببساطة رأى «التهافُت على السـلام» دليـلا على الضعـف والوَهَـن، وشاهِدا على تآكـل الإرادة السياسية وقصورها عن تَحَمُّل مسئولية الصراع من أجل الحيـاة والصراع من أجل السـلام.

ربما يكون من باب المفارقة أن إدوارد سعيد (الفلسطيني) الذي كتب عن أوهام السلام « الذي لا يستند إلى العدل» في كتابه المهم The End of the Peace Process: Oslo and after، يتفق تماما في فكرته تلك مع ناعوم تشومسكي (اليهودي) صاحب كتاب Middle East Illusion والذي  كتب يوم أن احتفى العرب بـ«خارطة الطريق» الأمريكية ٢٠٠٢ أنها لن تجد سبيلها واقعيا للتطبيق. وأنه حتى لو جرى ذلك، فلن تحقق سلاما. لماذا؟ «لأنه لا سلام يستقر بلا عدل».

مع تديين الصراعات في المنطقة، يصبح الكلام عن "يهودية الدولة" مقبولا، بعد كان الحديث عنه يوصف تقليديا بالعنصرية. فلا عنصرية دينية في محيط يجتهد في أن يضع الدين أو بالأحرى الطائفة محل المواطنة معيارًا للهوية (والحروب)
هذا شرق أوسط جديد. لا ترسم خرائطه مؤامرات «أهل الشر» كما يقول الغيبيون المغيبون، بل ترسم حدوده موازين قوى يعاد ترتيبها. ومعادلات صراع يعاد صياغتها، ربما عن غفلة من أولئك الذين لا ينظرون إلا تحت أقدامهم (أو ربما إلى كراسيهم). حيث تتغير«العقيدة العسكرية» للجيوش. وتعاد كتابة معاجم اللغة، فيصبح «العدو» غير الذي عرفناه لعقود من الحروب والصراع «محتلا للأرض، وسافكا لدماء أبنائنا، وطامحا أو طامعا في دولة تمتد حسب معتقداته الصهيونية المقدسة من النيل إلى الفرات». (إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم المعاصر التي لم تحدد حدودها حتى الآن).

حرص إسرائيل على أن تكون هناك دول في المنطقة «مثلها» مبنية على الدين أو على الطائفة أو الإثنية قديم. ففي يومياته التي نشرت عام ١٩٧٨ في ثمانية مجلدات يحكي لنا موشي شاريت أول وزير للخارجية في إسرائيل، وثاني رئيس للوزراء كيف استغلت حكومة ليفي أشكول «المسألة الكردية» فبنت علاقات مميزة مع الحركة الكردية العراقية (إبراهيم أحمد وصهره جلال طالباني زارا السفارة الإسرائيلية في باريس في نوفمبر ١٩٦٣). كما يحكي شاريت أيضا كيف حاول وايزمان (على هامش مؤتمر الصلح في باريس ١٩١٩) إثناء البطريرك الماروني إلياس الحويِّك عن تبني مشروع دولة لبنان الكبير، محاولا إقناعه بالتخلي عن جنوب لبنان، وأن يقتصر في سعيه على إيجاد «لبنان مسيحي». يومها رفض البطريرك اللبناني، ولكن محاولات الإسرائيليين لم تتوقف، كما يحكي لنا شاريت في كتابه. الأمر الذي وصل بموشي ديان إلى أن يقترح في اجتماع مغلق لكبار المسئولين الأمنيين (١٦ مايو ١٩٥٤) أن «نشتري ضابطا لبنانيا» يساعدنا في تحقيق الهدف. لبنانيا، لم ينجح الإسرائيليون، وإن كانت حكايا السبعينيات تقول بأنهم ربما كانوا قد مشوا خطواتها الأولى.

نحن الآن في العام ٢٠١٧. جرت في النهر مياه كثيرة جدا، ودماء أكثر. معظمها دماء مسلمين وعرب، بأيدي مسلمين وعرب حشدهم حكامهم بنعرات طائفية استدعت كل الثأرات القديمة، فوجدها الإسرائيليون (الصهاينة) فرصة لا تعوض للإلحاح على هدفهم العنصري «دولة يهودية خالصة»، محاولين، وسط طبول الحرب الطائفية التي تصم الآذان إقرار شرعية لأول دولة عنصرية «رسميا» في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لم تنجح محاولات حاييم وايزمان في هذا الشتاء الباريسي البعيد (١٩١٩) في خلق «دولة طائفة» في الجوار العربي، ولكني أخشى أن شيئا مما سعى إليه يقترب دون الحاجة إلى ما فكر فيه موشي ديان، أو إلى ما اقترحه على الاجتماع الأمني. 

وبعد..

فكلهم سيحاولون «سرقة» إنجاز المقدسيين المرابطين، ليس بداية بعجزة جامعة «الحكومات» العربية، وليس نهاية بوجوه فلسطينية فاسدة تحاول العودة إلى المشهد عبر صفقات مشبوهة مع أولئك الذين يحاولون النجاة من حصار أوشكت حلقاته أن تكتمل.

كلهم يحاولون «ويتاجرون» ولكن تبقى الحقيقة الوحيدة التي يعرف جيلنا أن أم كلثوم  قالت لنا قبل نصف قرن كاملة أنها لعشرين عاما تبحث عن بندقية، ماتت. وشادي الذي قالت لنا فيروز عام ١٩٦٨ أنه ضاع لعشرين عاما مازال تائها. أما «جسر العودة»، الذي لا أدري إن كان مازال خشبيا أم لا. فسماسرة الصفقات حتما لا يعرفون طريقه.

أخشى أنه لم يبق لنا إذن غير أن نجتر هجائية مظفر النواب الشهيرة.. لا أستثني أحدا.

فلن أذكر بهجائية مظفر النواب الشهيرة، فتهمه باتت ثابتة. كما لن أذكر بما كنا نحفظه لفيروز، فسماسرة الصفقات حتما لا يعرفون طريق «جسر العودة».

التعليقات