شروخ الدولة

تكتسب أى دولة مناعتها من سلامة البناء العام لمؤسساتها ومدى اتصاله بحقائق مجتمعه وعصره.
هذا صلب أى حوار جدى حول ما يعترض الدولة فى مصر من أزمات.
وفق الصياغات الرئاسية فإن الدولة مستهدفة فى وجودها، وقد تناثرت فى الفضاء العام عبارات تومئ إلى مستويات متعددة من الخطر.
فى البداية جرى الحديث عن «شبه دولة»، حيث تغيب أى مؤسسات كفؤة قادرة على الوفاء بمتطلبات أدوارها.
وأثناء مؤتمر الشباب الأخير بالإسكندرية تبدى حديث مفتوح عن «الدولة الهشة» ــ التى تعصف بها الأزمات دون قدرة على صدها ــ و«الدولة الفاشلة» ــ التى تعجز عن أى مهام تطمئن مجتمعها على أمنه واقتصاده.
بظاهر الكلام فهذا يؤشر على شروخ عميقة فى بنية الدولة المصرية تهدد مستقبلها.
باليقين فإن أى إجابة على قدر من الموضوعية تشير إلى تلك الشروخ دون أن تتجاوز حدود التشخيص إلى إطلاق الأحكام فى مدى التدهور الذى لحق بالدولة.
يصعب الحديث عن «شبه دولة» فى بلد يعود تاريخه إلى فجر التاريخ الإنسانى، وقد مرت عليه أزمات ومحن لم تنل من قدرته على تجاوزها.
التعبير استخدمه ــ للمرة الأولى ــ الدكتور «محمد أبو الغار» عام (٢٠٠٩) فى تصريح منشور على خلفية أزمة مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر فى تصفيات كأس العالم، التى أفضت إلى اشتباكات وملاسنات أفلتت من كل قيد سياسى وقومى وأخلاقى، لكنه كان مجازيا، بقصد إدانة الطريقة التى تعامل بها الإعلام والمسئولون فيما يشبه الهستيريا مع الأزمة.
عندما استخدم الرئيس «عبدالفتاح السيسى» التعبير نفسه فى سياق آخر كان القصد منه أن مؤسسات الدولة قد خربت بالكامل.
السؤال هنا: أين خطط إعادة بناء الجهاز الحكومى فى مصر؟ وإذا كان دور الجيش ضروريا فى إتمام بعض المشروعات الكبرى ــ نظرا لأوضاع القطاع المدنى العام والخاص ــ فإلى متى يعتمد عليه فى غير أدواره الطبيعية؟
الأسئلة ضاغطة على مناخ الاستثمار ومقلقة على مستويات كفاءة الأداء العام.
من منظور تثبيت الدولة فإن الفارق لا بد أن يكون حاسما بين ما هو اضطرارى وما هو طبيعى.
بذات الوقت لا يمكن الحديث عن «دولة فاشلة» تعجز عن حفظ الأمن والاستقرار.
غير أن مجرد طرح هذا الاحتمال فى حوار مفتوح يعبر عن عمق الشروخ ببنية الدولة وخشية تفكك محتمل.
وقد كان تعبير «الدولة الهشة» الأقرب إلى أجواء تلك الخشية، فالمناعة السياسية تضمحل، والأنين الاجتماعى يرتفع، وضربات الإرهاب تتزايد، وأزمة مياه سد «النهضة» تهدد البلد فى قدرته على إنتاج الغذاء، والنيران المشتعلة فى الإقليم تنذر بضربات غير محتملة للأمن القومى المصرى، إذا ما قسمت سوريا والعراق.
إذا لم يكن توصيف أزمة الدولة صحيحا فإن المواجهة سوف تضل طريقها.
أسوأ ما قد يحدث أن تتحول الشروخ إلى فزاعات، والمخاطر إلى «فوبيات» تثير الذعر العام وتسحب على المفتوح من خزان الثقة فى المستقبل.
أحد مظاهر هشاشة الدولة التراجع الفادح لصورة الإعلام المصرى واستغراقه فى التعبئة العامة بصراخ لا يقنع ولا يساعد على حل أى أزمة.
تثبيت الدولة ضرورة أمن قومى وسلامة مجتمع ومستقبل شعب، لكن ما المقصود بالدولة التى نريد تثبيتها فى مواجهة الأخطار المحدقة؟
دولة الماضى بكل إرثه فى التضييق على الحريات العامة والمشاركة السياسية والتغول على حقوق المواطنين فى الكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعى، أم الدولة الدستورية التى تحفظ للقانون حرمته وللمؤسسات استقلالها وللتحول الديمقراطى أسسه؟
هل الاستخفاف بالدستور يقوى الدولة أم يضعفها؟ وفيم يصب التغول على مؤسسة العدالة؟ وإلى أى حد يفضى الأداء البرلمانى الحالى لزعزعة بنيان الدولة؟
كل تلك شروخ يصعب ترميمها إذا ما استمرت الأحوال السارية.
إذا لم ندرك حجم التغيير الذى لحق بالمجتمع المصرى إثر ثورة «يناير» فإننا كمن يدفن الرءوس فى الرمال.
أى عودة للماضى تشرخ فى جذر الشرعية، كما تشرخ فى بنية الدولة.
وأى تغول على حقوق المواطنين لا يؤسس لأى تماسك ممكن فى مواجهة الأخطار.
بكلام أوضح فإن الدولة الأمنية عبء على الأمن نفسه، حيث تحرمه من ظهيره الشعبى الضرورى فى الحرب على الإرهاب، كما تدخله فى صدامات هو فى غنى عنها مع مجتمعه.
من هذه الزاوية إصلاح الجهاز الأمنى من ضرورات تثبيت الدولة.
الإصلاح لا يعنى التقليل من شأن الأمن وأهميته فى مواجهة الجريمتين الإرهابية والجنائية.
لا يمكن لأى مجتمع أن يستغنى عن أمنه وأن يكون قويا وكفؤا، غير أن ضرورات العصر تتطلب نظرة أخرى تستند إلى القواعد الدستورية لإعادة توفيق أوضاعه بما يصالحه مع شعبه.
أى تأخير إضافى فى ذلك الإصلاح الضرورى يعمق شروخ الدولة فى لحظة تحديات حرجة.
المشكلة أن أحدا لم يناقش بجدية معضلة الأمن والحرية، كيف نقوى الأمن ونحفظه دون تغول على حريات وحقوق المواطنين؟
يتجلى ذلك الشرخ فى أزمة الدولة مع شبابها، التى تراوح مكانها وتصل فى بعض الحالات إلى كراهيات متبادلة.
وقد كان مؤتمر الشباب الأخير مجرد منصة لعرض ما أنجزته الحكومة دون حوار جدى مع من يفترض أنهم أصحاب الحق الأول فى المستقبل.
إذا لم تكن اللافتات تشير إلى أن المؤتمر شبابى فإن أحدا لا يمكنه استنتاج أنه يخصهم.
لم تعرض قضاياهم الملحة، باستثناء إشارات عابرة، وجرى تجاهل أزمة الشبان المحبوسين الذين لم يفرج عنهم حتى الآن رغم أى وعود سابقة.
الثقة تكاد أن تضمحل حيث يجب أن تحضر، والمصالحة مع الأجيال الجديدة تتراجع حيث يجب أن ينهى ملفها.
ذلك كله يقع تحت عناوين دولة المؤسسات ودولة القانون ودولة العدل.
أين نحن من تلك العناوين؟
هذا ما يجب طرحه على أى سجال عام يدخل بجدية فى ملفات الخطر وضرورات تثبيت الدولة.
غياب العدالة فى توزيع أعباء الإصلاح الاقتصادى وغلاء أسعار السلع الرئيسية يضرب فى عمق الرضا العام وينذر بتداعيات وتعميق الشروخ.
لسببين رئيسيين لم تكن هناك ردات فعل سلبية كبيرة على القرارات الاقتصادية الصعبة، الأول ــ أن المجتمع منهك بأثر التحولات العاصفة فى السنوات الست الماضية.. والثانى ــ أنه خائف من المستقبل ولا يرى أمامه بديلا يطمئنه على أنه لا يغامر بمستقبله.
من الخطأ الفادح تصور أن غياب ردات الفعل نوع من الرضا ولا هو بوليصة تأمين موثوقة.
أجواء التجهيل بالحقائق تشرخ فى الدولة ولا تساعد فى تثبيتها.
ما تحتاجه مصر أن تنظر فى المرآة وتواجه أزماتها بلا مساحيق تجميل، حتى يمكنها ترميم كل شرخ ينال من دولتها العريقة.

التعليقات