حتى لا يبتلعنا الثقب الأسود

(1)

فى الأيام الأخيرة عانيت بشدة من ألم القولون العصبى، وجدت نفسى فى حاجة لمراجعة أسلوب حياتى ونمط معيشتى، فوجدت أننى فقدت اهتمامى بذاتى ورعايتى لها، ولأن الشىء بالشىء يُذكر، تذكرت نصيحة طبيبى المعالج بتكرار تحليل الكوليسترول بعد ثلاثة أشهر، عدت لآخر تحليل فوجدته بتاريخ شهر ديسمبر من العام الماضى، كيف نسيت ذلك؟ ولماذا أؤجل زيارة طبيب الأسنان؟ كيف نسيت هوايتى المفضلة مشاهدة الأفلام السينمائية الجديدة ومتابعة المهرجانات العالمية؟ لماذا لم أعد أستمتع بقراءة الروايات وكتب التحليل النفسى وعلم الاجتماع، واستبدلت بها الصحف والتحليلات السياسية والاقتصادية.. لماذا ابتلعنى الثقب الأسود فى مجرة الأحداث السياسية والأفق المصمت؟

الإجابة احتاجت منى لمزيد من التأمل والتوقف لأعرف أين أقف..

(2)

أنا مدينة لثورة يناير التى حررتنى وجعلتنى أشعر بأن كل مصرى، وأنا منهم، له دور وعليه واجب تجاه البلد الذى نحلم به، ولأن دور الكاتب الصحفى أن يسهم برأيه فى تحليل الأحداث ونقدها لتصل إلى القارئ فى صورة أوضح قد تساعده على الحكم الرشيد والتغيير إلى الأفضل، فلقد قمت بهذا الدور بكل إخلاص وصدق منذ عام 2011 حتى الآن، لم أكن يوما من المترددين فى كتابة ما أراه فى صالح جموع المصريين، الذين حلموا مثلى بحياة حرة كريمة يسودها العدل والمساواة.

(3)

مرت على مصر منذ ثورة يناير أحداث كثيرة وكبيرة، حتى وصلنا إلى اللحظة التى نعيشها بكل تعقيداتها، وأستطيع أن أقول بكل صدق إن كتاباتى فى الشأن العام والسياسة لم تعد ترضينى ككاتبة، أشعر أحيانا أننى أسير بالقراء على الأشواك، أعذب نفسى وأعذبهم، والنتيجة أننا جميعا نصرخ من الألم، ومن عدم قدرتنا على التغيير الذى لا نملك أدواته، ولا نعمل بجهد ومثابرة لامتلاكها، ولكن نكتفى بما لدينا، أنا من جانبى أكتفى بالكتابة، وهم من جانبهم يكتفون بالقراءة والتعليق، أو إعطائى علامة إعجاب «لايك» على السوشيال ميديا.. وفى المقابل هناك من يدفع ثمن حرية الرأى وجرأة الكتاب.

(4)

المقال الأكثر قراءة، والخبر الأكثر متابعة، والبرنامج الأكثر مشاهدة.. المنافسة جعلت الجميع يتسابق ويهرول ليصل إلى المرتبة الأولى، من أجل هذه المنافسة والتى لا تعنى شيئا، أصبح الإعلام والإعلاميون يبحثون عن الخلطة الحريفة التى تجذب أكبر عدد من القراء، السيسى فى العنوان يجذب القراء: معارضين ومؤيدين، أخبار نجوم الكرة والفن تجذب القراء، وكذلك موائد النميمة والفضائح. المحترفون فى الإعلام يعلمون كيف يرصون بضاعتهم مثل الفكهانى الشاطر الذى يجذب عين الزبون قبل أن يذوق بضاعته، ولأن الزبون لم يعد «ذواقة» ولا يعرف الفرق بين عصير المانجو الطبيعى والمانجو الصناعى، فلم يعد هناك داع للتجويد، اضرب أى حاجة فى الخلاط.. كله عند الزبون مانجة.

(5)

لقد أصبحت الكتابة المعارضة للنظام الحاكم مربكة، لا تمتع الكاتب ولا تفيد القارئ، بل أصبحت كالماء حين يختلط بالطين. السيسى وحكومته لا يستمعون إلينا، وفى ركابهم تسير معظم مؤسسات الدولة، نتصور أننا بالمزيد من الصراخ والحدة قد يستمعون إلينا ويلتفتون إلى ما نقول، ولكنهم لا يفعلون.. ويسيرون وفق خطتهم لا يأبهون بالمعارضة ولا بالشارع، كتاباتنا تتحول مع الوقت إلى كتابات غضب وليست كتابات نقد وتحليل.

(6)

كتابات الغضب مسيئة ولا تعيش، وتتحول مع الوقت إلى إدمان مدمر، لأنك إذا تعاطيتها لن تتوقف، بل تطلب المزيد، ويتناقص صفاء ذهنك، وتتدهور صحتك النفسية والعصبية، فتتحول لكتلة مشتعلة من الغضب المكتوم المختلط بالإحساس بالقهر والعجز، وينتهى بك الحال لليأس.. وأشد ما نحتاجه اليوم هو الأمل.

(7)

من أجل ذلك وعدت نفسى أن أتوقف عن كتابة الغضب، سأكتب لكم عن حياتنا.. عن اهتمامات نسيناها، وعن مستقبل أغفلناه لأننا متورطون فى الحاضر بكل تفاصيله المزعجة، وفى نفس الوقت عاجزون عن تغييره، مهما كانت المصاعب والمكدرات التى نعيشها ونعانى منها، سنكتشف دوما أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. على هذه الأرض ما يستحق الكتابة.

 

التعليقات