نوبة وداع للمفكر الشجاع رفعت السعيد

على كثرة الآراء والمعارك السياسية والفكرية، التي خاضها المناضل الراحل د. رفعت السعيد، فإن المعارك التي خاضها ضد تيار الإسلام السياسى، تكاد تكون أهم هذه الأدوار، وأشرس هذه المعارك.. ولم يكن رفعت السعيد أول المنتمين إلى فصائل وتيارات الحركة الوطنية، الذين خاضوا المعركة ضد المتأسلمين، ولن يكون آخرهم، ولكنه كان- بالقطع- واحداً من أوضحهم رؤية، وأشجعهم موقفاً، وأكثرهم صلابة، ولن يكون الأخير.

كان رفعت السعيد قد اقترب من الانتهاء من نشر موسوعته الرائدة عن تاريخ المنظمات الشيوعية المصرية، حين أفرج السادات- على مشارف حرب أكتوبر 1973 وفى أعقابها- عن المعتقلين ثم المسجونين من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، بعد عشرين عاماً، اختفوا خلالها عن الساحة السياسية المصرية، بعد سعيهم في محاولة اغتيال عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، ومع أن تجربة السجن والاعتقال كانت أوهنت عظام من تبقى على قيد الحياة، من قياداتهم، إلا أن هذه القيادات قد استطاعت أن تضم إلى صفوفها القسم الأكبر من أعضاء اللجان الدينية الإسلامية، باتحادات طلاب الجامعات، فجددوا شباب الجماعة التي كانت قد أوشكت على التحلل.

وفيما بعد أحدث هذا التحالف بين إدارة السادات والإخوان، الذي تحول إلى صدام في نهاية عهده، بسبب الخلاف بين الطرفين حول الموقف من تأييد الثورة الإيرانية- ارتباكاً شاملاً في التحالفات بين الأحزاب والقوى السياسية، في بداية عهد مبارك، طوال الأعوام الثلاثين التي حكم فيها، صحيح أنه واصل سياسة سلفه في التحالف مع الإخوان، لكى يواجه العناصر المتشددة التي تمارس العنف من فصائل تيار الإسلام السياسى الأخرى، مثل «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد».... إلخ.. إلا أن الإخوان لم يقصروا تحالفهم على الحزب الحاكم، بل سعوا للتحالف مع الأحزاب المدنية المعارضة، لابتزازه والحصول على مكاسب أكبر منه.. ورحبت هذه الأحزاب بالتحالف معهم، على أمل أن تستفيد من أصوات أعضائهم والمتعاطفين معهم، بعد أن اتسعت جماهيريتهم بسبب تحالفهم مع الحكومة، وبعد نجاحهم في اختراق انتخابات النقابات المهنية.

وهكذا خاض الإخوان الانتخابات البرلمانية لعام 1984- التي جرت بنظام القائمة المطلقة- على قوائم حزب الوفد الليبرالى وخاضوا انتخابات 1987، التي جرت بالنظام نفسه، على قائمة تحالف ضم غيرها، حزبى «الأحرار الاشتراكيين» و«العمل الاشتراكى»، ولم يتورع مرشحو الحزب الوطنى الحاكم، عن تبادل الأصوات مع مرشحى الإخوان في انتخابات 2005، التي أجريت بالنظام الفردى، بحيث يفوز أحدهما بمقعد العمال، ويفوز الثانى بمقعد الفئات.

وعلى امتداد هذه المرحلة، وما تلاها كان رفعت السعيد أعلى الأصوات التي حذرت من سياسة ائتلافات تقاسم الأصوات في الانتخابات العامة، من دون أن يتفق المؤتلفون على برنامج حد أدنى مشترك، يخوضونها على أساسه، محذراً من أن المستفيد من ذلك هو جماعة الإخوان التي لا صلة لأفكارها أو برامجها بالليبرالية ولا بالاشتراكية، ولا بالوطنية، والتى تنظر إلى الأحزاب والبرلمانات والانتخابات والديمقراطية، على أنها طاغوت من صنع الشيطان الذي أوهم بعض البشر، بأن من حقهم أن يشرعوا لأنفسهم بأنفسهم، وبأن يفتئتوا بذلك على حاكمية الله، التي لا يجوز لأحد من البشر- غير جماعة الإخوان المسلمين، أن يمارسها نيابة عنه «عز وجل».

ولم يكف رفعت السعيد عن مواصلة التحذير من الوقوع في الخديعة الإخوانية، ولم يتوقف يوماً عن تنبيه القوى السياسية والفكرية، بأنها جماعة تروج لخطاب مزدوج، يسعى الوجه الأول منه لإيهام القوى المدنية في بلاد المسلمين.

وإيهام الرأى العام في البلاد الأوروبية بأنها جماعة سياسية ديمقراطية علمانية على طريقة أمير المؤمنين رجب طيب أردوغان، بينما يسعى الوجه الآخر، لهذا الخطاب المزدوج، إلى إيهام أعضاء الجماعة، والمتعاطفين معهم، وعوام المسلمين، بأنها جماعة دينية إسلامية، تسعى لإعادة حكم السلف الصالح، وإحياء الخلافة الراشدة، وتعبيد الناس لمن خلقهم، وإزالة كل ما أضافه الطاغوت إلى كوكب الأرض من أفكار واختراعات ونظم، وما اكتشفه من آثار وما ابتكره من علوم. فعل رفعت السعيد ذلك، في الوقت الذي كان البعض فيه يسعون لخوض الانتخابات على قوائم الإخوان، وكان آخرون يعصرون الليمون على أنفسهم لكى يؤيدوا مرشح الجماعة للرئاسة «عالم الفضاء محمد مرسى»، وفعله في مواجهة معارضيه داخل حزب التجمع نفسه الذين كان من رأيهم أن موقفه الصلب من معارضة الخديعة الإخوانية، يضر بفرص الحزب للفوز بما يستحقه من مقاعد في المجالس النيابية، وفعله من دون مساندة من مرشحى الحكومة، الذين ظلوا يتقاسمون مقاعد المجالس النيابية مع مرشحى الإخوان.. وربما لهذا السبب يستحق رفعت السعيد أن نضرب في رحيله نوبة وداع للمفكر الشجاع، الذي ظل طوال عمره يناضل من أجل الحرية والعدالة والمساواة.

التعليقات