لا تلقوا الجواهر أمام الخنازير

(1)

قبل العيد بأيام قليلة ذهبت إلى خان الخليلى لطلاء بعض الأوانى الفضية، الركود في الخان أصابني بالكآبة، قلة السائحين أثرت على تجار الخان وجميع العاملين بالسياحة في مصر. تراجع السياحة في مصر أعجوبة من أعاجيب الزمان، دول صغيرة لا تملك ربع مقومات مصر السياحية، لديها أعداد سائحين بالملايين، أما نحن فمازلنا نستجدى عودة السياحة الروسية، مميزات مصر الطبيعية يضاف إليها رخص الأسعار بعد تحرير سعر الصرف، يجعل السياحة والتسوق فيها قليل التكلفة أمام أي سائح، فلماذا نحن في ورطة سياحية؟ وغيرنا ينعمون بتدفق السياح الذي يفتح أبواب الرزق أمام قطاعات كثيرة من الشعب.

(2)

البعض سيرد قائلا: «مصر مستهدفة من المؤامرة الكونية، العمليات الإرهابية التي تحدث في سيناء والتى تستهدف الكنائس تخيف السائحين»، لكن كل دول العالم تقريبا تتعرض لهجمات إرهابية الآن، الفرق بيننا هو سرعة رد فعل الشرطة والأجهزة الاستخباراتية، فينتهى الأمر سريعا عندهم بمعرفة الجناة والإعلان عنهم والقبض عليهم، دول أوروبا أصبحت مسرحا لعمليات داعش، ولكن ذلك لم يقلل أعداد السائحين الذين يتوافدون إليها، بل إن هناك دولا حولت الحوادث الإرهابية إلى فرصة للترويج لصورتها الإيجابية مثلما حدث في فرنسا بعد الاعتداء الدامى على صحيفة شارل إبدو، السياحة لها مقومات ونقاط بيع، من بينها الأمن لكن الارتكان إلى أن الإرهاب هو السبب الوحيد لتراجع السياحة والترويج لذلك فهو حجة الفاشلين. أهم مقومات السياحة: سهولة وجودة الحياة في البلد الذي يستضيف السائحين، تعرض بلد لهجمات إرهابية يمكن أن يؤدى لتعاطف السائحين، لكن تعرض المواطنين لإرهاب الدولة هو ما يضر بصورة البلد ويقضى على السياحة، تعذيب ومقتل ريجينى يمكن أن تكون آثارها السلبية على السياحة أكبر بكثير من الإرهاب في سيناء.

(3)

تعليقات السائحين الذين زاروا مصر على المواقع الإلكترونية المتخصصة في السياحة، معظمها سلبي، يتحدثون عن قذارة الشوارع والمراحيض العامة وصعوبة وسائل المواصلات العامة وأنها لا تصلح للاستهلاك الآدمى، ويشتكون من النصب الذي تعرضوا له من التجار في المزارات السياحية، والمتسولين الذين يلاحقونهم في الشوارع، وتعرض السائحات للتحرش في شرم الشيخ والغردقة وشوارع القاهرة، هذه هي صورة مصر التي يحملونها إلى بلادهم.. شهادات شخصية يثق بها الناس ويعتبرونها مرجعا.

(4)

وزارة السياحة تدفع الملايين مقابل الحملات الدعائية لتحسين صورة مصر وجذب السائحين، لكن ألف باء العمل السياحى، أن تختار فيما تعرضه ما هو حقيقى، من يأتيك منجذبا بإعلانك لن يعود إليك مرة أخرى إن لم يجده صدقا، تمام مثل الذي يشترى سلعة بسبب إعلاناتها الجذابة، لو وجدها سيئة لن يشتريها مرة أخرى بالعكس ستكون أسوأ دعاية لها. إعلانات وزارة السياحة عن مصر، لقطات فوتوغرافية مثل الكروت السياحية، بعيدة كل البعد عن الحياة اليومية في مصر التى يعيشها السائح. الهند بلد يأمها كل عام ملايين السياح، رغم أنها تعانى من الزحام الشديد والنصب في الأسواق وعدم النظافة وعدم وجود خدمات على مستوى عالٍ، لكنها تروج لصورتها عبر ما تملكه بالفعل: أفلام بوليوود، التي يشاهدها الملايين في كل أنحاء العالم، خاصة دول الشرق الأوسط والخليج، إنها دولة تحترم التعددية والاختلاف وقبول الآخر وتمارس ديموقراطية الحكم، بلد اليوجا، في عام 2015 قام «مودي»، رئيس الوزراء الهندى، بالاحتفال بيوم اليوجا العالمي في أكبر ميادين الهند، وقُدر عدد الذين شاركوا في الاحتفال بما يزيد على 35 ألف شخص ينتمون إلى 84 جنسية مختلفة، بالإضافة إلى الطب الهندى البديل وشهرة المطبخ الهندى بتوابله المميزة، الهند لا تروج لنفسها باعتبارها دولة عصرية على الطريقة الغربية ولكن باعتبارها بلد الأساطير والأفيال.

(5)

فيديو أغنية «ديسباسيتو» حطم كل أرقام المشاهدة على يوتيوب، فهو الأعلى مشاهدة في العالم حتى الآن، وصل عدد المشاهدات إلى أكثر من 3 مليارات مشاهدة، ولا يقف تأثير الأغنية عند حد هذا الانتشار، لكنها استطاعت أن تجذب السياحة إلى دولة بورتوريكو التي ينتمى إليها المغنيان والتى تم تصوير كليب الأغنية فيها، ارتفعت السياحة خلال الأشهر التي تلت رواج الأغنية بنحو ٤٥٪، مما ساهم في إنعاش الاقتصاد نسبيا، الأمر الذي وصفه البعض بمعجزة ديسباسيتو، وقام منظمو الرحلات السياحية في بورتوريكو، بضم الأماكن التي ظهرت في فيديو الأغنية، إلى برامجهم ورحلاتهم السياحية.

وأغنية «ديسباسيتو» ليست المثال الوحيد الذي يوضح تأثير الفن كقوى ناعمة، لكن المسلسلات التركية روجت للسياحة التركية، مدينة إسطنبول التي يتم تصوير معظم الدراما التركية فيها تُصنف من أهم ١٠ مدن جاذبة للسياحة في العالم. بعدما كان عدد السياح الوافدين إليها لا يتجاوز ١٠ ملايين في مطلع الألفية، وصل إلى حوالي ٤٠ مليونا في عام ٢٠١٦، كما نجحت الدراما التركية في التخفيف من حدة الكراهية والعداء الذي كان يحمله اليونانيون تجاه الأتراك.

(6)

فقدت مصر قوتها الناعمة، والتى كانت تتميز بها: الفن والثقافة والإعلام وأيضا صورتها كممثلة «الإسلام المعتدل» بوجود الأزهر، واحتلت هذه المكانة بلدانا عربية أخرى أصغر حجما وشأنا، لم تستفد مصر من حصول نجيب محفوظ على نوبل للآداب، بتحويل المناطق التي تدور فيها أحداث الثلاثية إلى مزارات سياحية، ولم تؤسس متحفا لتخليد ذكرى سيدة الغناء العربى، بل سمحت بهدم فيلتها وبناء برج على أطلالها وضياع مقتنياتها، كما خسرت مصر فرصتها بعد ثورة يناير حين أصبح ميدان التحرير أيقونة الثورة في العالم، يحج إليه الساسة والسائحون، وبدل الحفاظ على جرافيتى الثورة، الذي رسمه فنانون مصريون تأثروا بالزخم الثورى، تم مسح كل جرافيتى الثورة من على حوائط المدينة وكأنه لعنة يريدون التخلص منها.

(7)

مصر ليست فقيرة بمواردها كما يحاولون إقناعنا.. ولكنها فقيرة الفكر، المسؤولون عن إدارتها ينقصهم الإبداع ولا يقدرون ما بين أيديهم من كنوز.. وصدق المسيح حين قال: «لا تلقوا الجواهر أمام الخنازير».

التعليقات