سوء الفهم المتبادل لمعني المساعدات الأمريكية لمصر

جاء قرار الكونجرس الامريكي بتعليق جزء من المعونة العسكرية الامريكية لمصر وتقليص المعونة الاقتصادية لها بردود فعل رسمية وشعبية مصرية  عبرت عن استيائها من القرار ، رغم ان التقارير التي نشرت في الصحف الامريكية  منذ مايو من العام الماضي كانت تشير إليّ احتمالات كبيرة لحدوث الاقتطاعات والتعليقات لأجزاء من المعونة الامريكية مستقبلا ، وبالأخص التقرير الذي قدمه السيناتور الجمهوري جيري كونولي الي مجلس الشيوخ في مايو ٢٠١٦ والذي أشار الي عدم التزام مصر باشتراطات المعونة الامريكية سواء فيما يتعلق بمتابعة دقة توجيه هذه المعونات لأغراض معينة ، او بسبب ما اسماه بأنتهاكات حقوق الأنسان في مصر بعد الأطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي في يونيو ٢٠١٣ . ايضا لم يكن القرار مفاجئا كوّن الاقتطاع والتعليق في المعونة الامريكية لم يكن أمرا جديدا ، فقد أخذ الشق الاقتصادي في المعونة في التقلص منذ عام ١٩٩٩، وإن ظل حجم المعونة العسكرية ثابتا ( ١.٣ بليون دولار سنويا ) خلال الفترة ١٩٧٩ وحتي الآن .

شعور القلق والغضب المصري شعبيا من قرار الكونجرس يبدو أكبر من مثيله علي المستوي الرسمي لأسباب عديدة، أهمها القراءة المختلفة من الجانب الشعبي المصري لقرار الكونجرس ، فوفقا للثقافة المصرية التي تفهم عملية اتخاذ القرار في أي دولة علي إنها عملية أحادية يمتلك فيها رئيس الدولة القرار وحده ، فإن جزء من القلق قد استمد من إعتقاد عام  بأن الموقف الإيجابي من جانب الرئيس دونالد ترامب تجاه الرئيس السيسي - والذي تدعمه مقولات ترامب وتعليقاته عن اعجابه بالرئيس المصري وسياساته خاصة في مواجهة الارهاب -  قد تغير !! ولعبت بعض الصحف والتعليقات من جانب ضيوف برامج التوك شو في المحطات التلفزيونية المصرية في تأكيد هذا الشعور، سواء بالهجوم علي الرئيس الأمريكي بأعتباره في اضعف الأحوال مؤيدا للكونجرس في قراره ، دون ان توضح لهذا الجمهور طبيعة عملية اتخاذ القرار في النظام السياسي الأمريكي والدور المحدود لرئيس الدولة في هذا الشأن تحديدا،  أو بالبحث في تفسير مغزي صدور القرار  عبر نظرية المؤامرة والتي تري أن الكثير من المؤسسات الأمريكية خاضعة لنفوذ جماعات ضغط تمكنت جماعة الأخوان من أختراقها والتأثير فيها وحملتها علي تقليل المعونة الامريكية  لمصر بهدف إخضاعها وإجبارها علي إعادة الاخوان للحياة السياسية مجددا ، ويزيد الوضع سوءً أن المثقفين المصريين المنتمين لليسار يميلون بشكل تقليدي لموقف ايدولوجي معاد للمعونة الإمريكية الخارجية عامة ويرونها وسيلة من وسائل اخضاع الدول سياسيا وإلحاقها اقتصاديا بالاقتصاد الرأسمالي الذي لا يعمل لمصلحة الشعوب بل يستنزفها ويقضي علي فرصها في التقدم والنمو وقد استخدم هؤلاء قرار الكونجرس الأخير لجذب مزيد من المصريين نحو أفكارهم الداعية للدخول في مواجهات مباشرة مع السياسة الأمريكية عامة وحيال مصر خاصة .

سوء الفهم من جانب الثقافة الشعبية المصرية لقرار الكونجرس الأخير ، لا يعفي بعض قطاعات النخبة الأمريكية سواء نواب في الكونجرس أو باحثين في مراكز دراسات لها سمعتها، من مسؤلية  الوقوع في خطأ مماثل عبر تجاهل هذه القطاعات  لحقائق عديدة داخل المجتمع المصري، مثل عدم الثقة في جماعة الاخوان في أوساط أغلبية معتبرة من المصريين ، وإصرار الكثير من الباحثين والخبراء الأمريكيين علي وصف الاطاحة بمرسي عام ٢٠١٣ علي انه انقلاب عسكري متجاهلين إرادة الملايين من المصريين الذين خروجوا في مظاهرات حاشدة تطالب المؤسسة العسكرية بمساعدتها علي تخليص مصر من حكم الأخوان الذي كان ينذر - لو استمر - بإقامة دولة دينية معادية للديموقراطية وحقوق الانسان خاصة النساء ولديها استعداد أيدولوجي لأضطهاد الأقليات الدينية وتصفية وجودها في البلاد كما حدث لليهود من قبل حتي منتصف الخمسينات ، وكما يحدث من جانب حلفاء الأخوان من جماعات العنف ( سلفيين وجهاديين ) تجاه الأقباط في الوقت الراهن . وبمعني أكثر وضوحا لا يتفهم الشعب المصري كيف لا يري الأمريكيون خطورة أفكار وممارسات  جماعة الأخوان وحلفائها علي حقوق النساء والأقليات وعلي الديمقراطية عامة ، في الوقت الذي يبررون دعواتهم لمعاقبة مصر حاليا بحجة عدم وفاء النظام الحاكم بمعايير القيم الامريكية الداعمة لديمقراطية وحقوق الأنسان!

أيضا تتجاهل قطاعات من النخبة السياسية والبحثية الأمريكية التي تدعو لمعاقبة مصر تحت مسمي رفض انتهاكات حقوق الأنسان ، حقيقة أن عدم تنظيم حق التظاهر في مصر قد يقود إلي فوضي  تعيق ملايين المصريين من ممارسة حياتهم  اليومية بشكل طبيعي ، وكأن حقوق المتظاهرين لأسباب سياسية أو فئوية لها الأولوية علي حقوق المسالمين الذين يتبنون منطق نيل الحقوق عبر التفاوض مع مؤسسات الدولة وليس عبر خلق الإضرابات الدائمة في الشارع .

المطلوب إذن ان يكون هناك تفهما متبادلا بين الجانبين وعدم تعامل كليهما مع انطباعات عامة أو قيم مطلقة في مواجهة الآخر ، فعلي المواطن المصري ألا يري القرار الأمريكي علي انه نابع عن مؤامرة ضد مصر،  ولا هو مؤشر علي تحول في سياسة الرئيس ترامب تجاه الرئيس السيسي ، بل ناتج عن طبيعة النظام السياسي الأمريكي وعن عدم إعتناء جزء من النخب الأمريكية بدراسة جماعات الاسلام السياسي بشكل محايد ودقيق علميا وتاريخيا وعمليا ، وعلي الجانب الأمريكي في المقابل أن يتفهم طبيعة التهديدات والتحديات التي تواجهها مصر في الآونة الحالية وألا يتعامل بمنطق " مطلقية " مبادئ حقوق الأنسان وحتمية الوفاء بها كاملة في مجتمع ما يزال أمامه الكثير للوصول إليّ مستوي التطور الأقتصادي - الأجتماعي الذي يتيح لأفكار حقوق الأنسان ان تنتشر وتزدهر . ايضا علي الجانب الأمريكي أن يأخذ علي محمل الجد مخاوف اغلب المصريين من فكرة سقوط بلاده في الفوضي كما حدث في سوريا وليبيا والعراق واليمن، وألا يتعامل معها( أي هذه المخاوف)  علي إنها محض عملية تضليل  يمارسها نظام الحكم للأبقاء علي استبداده كما يري البعض ، خاصة أن من يدافعون عن الديمقراطية وحقوق الأنسان في الولايات المتحدة والذين يطالبون بمراجعة نظام المساعدات الأمريكية لمصر لدفع النظام المصري لتغيير سياساته، لم يظهروا شعورا حقيقيا بمسئوليتهم ولو بشكل غير مباشر عن المأساة التي شهدتها شعوب ليبيا وسوريا والعراق واليمن بسبب تأييد دعاة الديمقراطية وحقوق الأنسان الأمريكيين  للتيارات التي قادت ثورات الربيع العربي دون إعتبار لاحتمالات الفوضي التي زادت من انتهاكات حقوق الأنسان وجعلت الديمقراطية في أعين الأجيال الشابة في العالم العربي مرادفة لأنعدام الأمن وصراعات المصالح بشكل غير مسئول .

التعليقات