نحتاج أن نتكلم!

هكذا لخص شريط دعائى ـ باللغة الإنجليزية ـ ما تصور صانعوه أنه جوهر أعمال «منتدى شباب العالم»، الذى يلتئم السبت المقبل فى منتجع «شرم الشيخ».
الشريط الدعائى متقن فنيا، وهذا يحسب لمجموعة من الشبان الموهوبين كلفتهم بالمهمة إحدى شركات الإعلانات الدولية الكبرى العاملة فى مصر.
التعبير نفسه «we need to talk» يستخدم ـ عادة ـ فى المنازعات العائلية عندما لا تكون هناك وسيلة أخرى لردم الفجوات سوى المواجهة المباشرة بالكلام الصريح.
أهم المواجهات الضرورية: هل لدينا ما نقوله لشباب العالم مقنعا ومؤثرا والحقائق أمامه تدعو للتساؤل والقلق وأحيانا الفزع؟
أى كلام لا يستند إلى حقائق تسنده على الأرض يفقد أثره واحترامه.
بلغة الحقائق فالصورة العامة للبلد تدهورت فى السنوات الأخيرة على نحو فادح بأثر السجل المفرط فى سلبيته لملف الحريات العامة وحقوق الإنسان والتضييق على المجتمع المدنى وإغلاق المكتبات، فضلا عن أزمة الدولة مع شبابها، التى لا يمكن التهوين من خطورتها.
دعوة شباب العالم للالتحاق بالمنتدى حتى يكون صوته مسموعا وأفكاره واصلة بلا قيود هو ـ بالضبط ـ ما تحتاجه الأجيال الجديدة فى مصر، التى تعانى إنكار أحلامها فى التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة استوفوا فواتيرها فى ميادين الثورة قبل أن يخيم الإحباط على المشهد كله.
ليس بالدعايات ـ وحدها ـ تسفر مثل هذه التجمعات عن نتائج إيجابية، أو تصحح من صورة البلد الذى يستضيفها.
قبل أن يبدأ المنتدى فاعلياته بدأت موجة عكسية على شبكة التواصل الاجتماعى تركز على تناقضات الدعاية مع الصورة.
تحت نفس العنوان «نحن نحتاج أن نتكلم» نشرت مئات الصور عن ضرب المتظاهرين والاعتداء على مواطنين عاديين وأزمة الخبز وتدهور الصحة وتكدس الفصول الدراسية إلى آخر ما نعانيه الآن. الاحتجاج بالصور، كما الصراخ من الألم، تعبير عن مجتمع يتوق إلى فتح قنواته السياسية والإعلامية والاجتماعية، التى تكاد أن تكون أغلقت ووضعت عليها متاريس وأقفال.
بعد تجربة ثورة «يناير» يكاد يستحيل أن تعود مصر إلى الخلف، أو أن تحكم بالطرق القديمة.
فى التناقض بين تجربة الثورة فى طلب الدولة الحديثة والعادلة وحقائق الحال السارية فى السياسات يصعب التعويل على أى استقرار.
«نحتاج إنسانية، نحتاج سلام، نحتاج أن نتكلم» ـ حسب التلخيص الأخير للشريط الدعائى.
أين نحن من ذلك كله؟
الإنسانية ترفض التمييز العنصرى وإهدار حقوق الإنسان وتجفيف المجال العام.
بعض المعانى الإنسانية مطروحة على جدول الأعمال مثل رفض العنصرية لكنها لا تتطرق على نحو صريح إلى ما يجرى بحق الفلسطينيين من تمييز وتهميش وإنكار أى حق مشروع، وبعضها الآخر يختفى ذكره مثل كفالة الحريات العامة وحقوق الإنسان، رغم أنها من أهم مفردات الخطاب الدولى المعاصر.
الكلام فى المطلق، كما الإخفاء العمدى، لا يؤسس لقيمة ولا يلهم شابا واحدا فى العالم.
والسلام قيمة إنسانية عليا غير أنه يستخدم ـ فى حالة القضية الفلسطينية بالذات ـ للتدليس على أبشع الانتهاكات.
إذا لم يكن هناك حوار فى منتدى «شرم الشيخ» ينتصف للضحية من الجلاد فإنه يفقد اعتباره فى الدفاع عن أية قيمة إنسانية.
عندما لا تكون هناك قضية معروفة ومشروع مشترك فإن مثل هذه التجمعات الدولية لا تزيد قيمتها ـ فى أفضل الأحوال ـ عن نزهات سياحية وتزجية أوقات فراغ.
قد يكون الهدف الممكن تنشيط السياحة ولفت الانتباه إلى جمال منتجع «شرم الشيخ»، لكنه يظل محدودا ويقصر عن تلبية شىء من الدعايات التى سبقته والأموال التى أنفقت عليه.
فكرة المنتدى نفسها ليست ابتكارا جديدا، فقد دأبت المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق فى سنوات الحرب الباردة على استضافة ما كان يطلق عليه «مؤتمر الشباب العالمى»، الذى كان يعقد سنويا بالتداول فى إحدى عواصمها.
كان أشهرها وأهمها، وربما آخرها، المؤتمر الذى عقد فى العاصمة السوفييتية موسكو عام (١٩٨٥) .
شاركت فيه مصر بوفد شبابى قدر لعدد كبير منهم أن يلعبوا أدوارا بارزة على مسارح السياسة والثقافة والفن فى مقبل الأيام وضم الشعراء الكبار «عبدالرحمن الأبنودى» و«أحمد فؤاد نجم» و«سمير عبدالباقى».
الفارق الجوهرى بين منتدى «شرم الشيخ» و«مؤتمر موسكو» أن الأول يفتقد أية هوية أو شخصية تبرر انعقاده، ولا يوجد لديه ما يقوله للعالم باستثناء ما تتعرض له مصر من ضربات إرهابية لا تبرر ـ رغم ضراوتها ـ التنكيل بالحريات العامة والزج بأعداد كبيرة من الشباب المسالم خلف قضبان السجون.
تكاد لا تعرف على أى أساس جرى اختيار أعضائه، ولا ما الهدف من اجتماعهم فى مكان واحد لستة أيام؟.. بينما الثانى يعرف أهدافه ولديه ما يقوله مع مطلع تولى «ميخائيل جورباتشوف» زعامة الاتحاد السوفيتى.
كان ذلك زمن «البريسترويكا» والتطلع إلى اشتراكية ذات وجه إنسانى، التى ألهمت قبل أن تخفق تجربة «جورباتشوف» وينهار الاتحاد السوفييتى ـ وتلك قصة لم تتكشف كامل حقائقها حتى الآن.
لم يحضر ذلك المؤتمر الشبابى أى شخصية سياسية دولية باستثناء «جورباتشوف» نفسه، وكان هو ـ بما لديه من جديد يريد أن يراه العالم ـ محور الاهتمام العام.
كان الكلام مفتوحا حول مستقبل القضية الفلسطينية وحركة عدم الانحياز والعالم الثالث والتحولات الممكنة فى النظام العالمى.
كان لافتا أن القضية الفلسطينية استولت بعدالتها وعذاباتها على مشاعر الشباب المقبل من أنحاء العالم إلى موسكو.
كأن عاصفة هبطت فجأة من السماء اهتزت مدرجات استادها الرياضى الرئيسى عندما مر الوفد الفلسطينى المشارك بأعلامه وشعاراته.
رغم اختلاف الأزمان والنظم فإن «منتدى شباب العالم» فى «شرم الشيخ» يفتقد بقسوة وضوح الفكرة والهدف والقدرة على إثارة الاهتمام الدولى العام وتصحيح صورة الحاضر فى مصر.
أى كلام آخر فهو تجديف فى الفراغ السياسى لا يجدى ولا يفيد.
إذا أردنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق، بعيدا عن خداع الذات بالدعايات الملونة، فإن أحدا على شىء من التبصر ليس مستعدا أن يصدق شعار المنتدى عن حاجة شباب العالم إلى الكلام مع بعضه الآخر طلبا للتفاهم واتصال الثقافات والحضارات إذا كان الداعون يسدون الأبواب والنوافذ ولا يريدون أن يستمعوا إلى صوت المستقبل وأنينه فى بلادهم.

التعليقات