صداقة هولندية

في حفل زفاف صديقي الهولندي "باس ألتينا"، أعدّت أسرته مسرحية بسيطة مثـلها أفراد الأسرة لرواية موجز تاريخ حياته. وقفوا في صف، وأمسك كل منهم ما يشبه الصحيفة، وأخذ يقرأ جزءاً من تاريخ حياة العريس. في محطات حياته، فاجأني أنهم يذكرون مجيئه لي من مدينة أوتريخت إلى مدينة لاهاي، ليقضي معي بعض الوقت كل أسبوعين تقريبا، فهل يمكن أن أكون مهماً لدرجة أن يذكروا تلك الزيارات التي تحولت إلى عادة في حفل زفافه؟ الإجابة: "نعم"، ليس لأنني مهم كشخص، ولكن لأن الهولنديين يقدسون الصداقة، ويعتبرونها شيئاً يستحق الذكر، ويجب الفخر به.
 وعندما دخلت إلى حفل الزفاف، في تلك المزرعة البسيطة، فوجئت بأن أغلب المدعوين يأتون للسلام عليّ، وتصورت لوهلة أنني صرت مشهورًا في هولندا، لدرجة أن أقارب "باس" وأصدقاءه يعرفونني. كانوا يسألونني كبادرة للتعارف: "أنت صديق باس الذي جاء خصيصاً من الأردن لحضور زفافه؟". ولم أكن الوحيد بين أصدقائه الذي جاء من مكان بعيد، حيث عشت في الأردن مؤقتاً لشهور. في الحفل، كان هناك صديق طفولة لـ"باس" جاء من لندن، وصديق طفولة آخر جاءه من أستراليا، ولم يكن قد رأى أيًا منهما منذ افترقا في الطفولة، لكنه لا يزال يعتبرهما صديقين، ووجه لهما دعوة للحضور، فحضرا، رغم بعد الزمان والمكان. قابلت "باس" مرتين في القاهرة، قبل انتقالي للعمل في هولندا، ثم العيش هناك. جاء، في المرتين، ليغطي أحداث الثورة في موجاتها المختلفة، وقابلته في مقهى ريش مع صديقي البلجيكي "كورت ديبوف"، الذي أشهد أنه قدم خدمات جليلة لمصر، دون أن يظهر ما قدمه إلا للمقربين، وربما يأذن لي يوماً أن أتحدث عما فعله لمصر والمصريين. 
في المرتين اللتين قابلت "باس" فيهما، لم يكن هناك ما يشير إلى أن صداقة عميقة قد تنشأ بيننا في المستقبل، فهو هادئ جدا، هدوءاً يناقض صخبي في الجلسة، لكن هذا الانطباع تغير ببطء، وثبات، وبدون أي تكلف، عندما ذهبت إلى هولندا. لاحظت أن "باس" يتصل من وقت لآخر ليطلب مقابلتي وقضاء بعض الوقت معي في نهاية الأسبوع. وعندما انتقلت لمدينة مختلفة عن المدينة التي كنا نعمل فيها معا، لم يتغير شيء، واستمر حرصه على اللقاء كل أسبوع أو أسبوعين، حتى أصبح لقاؤنا عادة. والحق أنني لم أبذل أي جهد في بناء هذه الصداقة، بعكس "باس" الذي ينفق من ماله ووقته ليقضي وقتًا معي، وينتقل من مدينة إلى مدينة أخرى بعيدة، من أجل الصداقة. في أوقات الشدة والوحدة والاكتئاب وجدته، كما وجدته في أوقات اللهو والفرح والمرح.
 كان هناك دائمًا داعمًا، مشاركًا، أو مواسيًا، بصدق وإخلاص جعلا من وجوده في حياتي أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه. و"باس" هو مجرد مثال على طبيعة الصداقات في هولندا، فهو ليس وحده الذي يفعل ذلك، لكنني كنت محظوظًاً به. يؤمن الهولنديون بأن الصداقة استثمار يستحق أن تنفق فيه، ومن أجله، أغلى ما يملك الهولندي، وهو الوقت. يتصرف الهولندي بصدق، لأن هذا يجعله أفضل، ولأن الصداقة بالنسبة له استثمار سيعود عليه في المستقبل، وليس "بيزنس" من المحتمل أن ينقضي مع الوقت. وليس شرطًاً أن يعود الاستثمار بفائدة مباشرة، أو مصلحة، بل يكفي أن يكون في حياتك صديق تدعوه إلى حفل زفافك في هولندا، فيأتي إليك من أستراليا ليحتفل معك. أستعير من صديقي عزت القمحاوي عنوان روايته البديعة: "يكفي أننا معا"، ويمكنك أن تقيس على ذلك كل الاستثمارات العاطفية.  
التعليقات