عملناها وما نفعتش!

في منتصف المشهد ينتصب تمثال الشهيد عبد المنعم رياض في ميدان يحمل اسمه في مدينة بورسعيد. يقف حول قاعدة التمثال عدد من المسؤولين يتابعون الموقف ويعطون التعليمات. يقفز أحد العمال من فوق قاعدة التمثال بعد ربطه بسلك ثبت في شوكة رافعة (لودر) يقف إلى اليسار. يتراجع اللودر ببطء وهو يجذب التمثال. يميل التمثال ببطء حتى يستند على حافة الشوكة ويستقر في وضع أفقي. تواصل الشوكة هبوطها فتجر التمثال إلى الأسفل وتتحطم القاعدة الرخامية. يستقر التمثال برهة على حافة الشوكة. يتأرجح ثم يسقط محطما على الأرض. نسمع لأول مرة صوت الشخص الذي يصور المقطع من داخل سيارته وهو يختم المشهد ساخرا بلهجة بوسعيدية محببة" أصحاب العقول ف راحة".

ستة وستون ثانية تلخص مشكلة مصر الحديثة في مقطع من أكثر مقاطع الفيديو مشاهدة في اليومين الماضيين. المسألة تتعدى أي تعليقات عن الإهمال والفوضى. نحن أمام منهج في التعامل مع الحياة ومشاكلها يتجاهل أبسط قواعد التفكير المنهجي.

قبل يوم واحد من انتشار الفيديو وبالصدفة البحتة، كنت أشاهد مع الصديق المخرج عمرو بيومي نسخة المونتاج المبدئي لفيلمه القادم "رمسيس راح فين". الفيلم تجربة ذاتية تدور حول عملية نقل التمثال وتستدعي أفكارا عدة حول العلاقة بالسلطة على أكثر من مستوى، كما تقدم توثيقا لنقل تمثال الفرعون إلى ميدان باب الحديد في عام 1955 ولعملية النقل التالية من الميدان إلى موقع التمثال الجديد في ميت رهينة عام 2006. في المرتين يبدو واضحا أن المصريين يعرفون كيف ينقلون التماثيل، وفي المرتين كان هناك منهج واضح للتعامل مع المسألة يبدأ بفهم المشكلة والنظر في الحلول المطروحة، وموازنة المخاطر المرتبطة بها، ثم اختيار الحل الأمثل. وينتهي بالتخطيط، ثم التنفيذ.

بإمكان أي طفل لم يفسد عقله ومنطقه أن يرى بالعين المجردة ما عجز المهندسون والملاحظون في بورسعيد عن إدراكه. يستحيل أن يدخل فيل في علبة، ولا يمكن أن يستقر تمثال يزيد طوله على ضعف عمق شوكة اللودر بداخلها. لكن أحدهم على الأرجح قال بحكمة قبل تدشين العملية الفاشلة: "مش يمكن تنفع؟" أو "نديله فرصه ونشوف".

السؤال الأكبر هنا هو: هل كانت هناك مشكلة بالفعل؟ هل وجدت ضرورة لنقل التمثال؟ لم أجد فيما تم تداوله سببا منطقيا واحدا يبرر النقل. الميادين يتم توسيعها من أطرافها وليس من المركز، واحتفالات عيد استقلال المحافظة تتم كل عام دون الحاجة لتوسعة ميدان أو تحطيم تماثيل. ما السبب إذن؟ الله ومحافظ المدينة أعلم.

عندنا على الأرجح حلول تختلق لأسباب متباينة ثم نبدأ بعدها في البحث عن مشاكل "لتلبيس" هذه الحلول لها. بهذا المنطق ربما وجد اللودر وصاحبه قبل التمثال، فصار اللودر هو الحل وتعين علينا أن نبحث عن وسيلة لإدخال الفيل داخل العلبة أو التمثال داخل الشوكة.

ينطبق هذا على المشاكل الصغيرة كما ينطبق على المعضلات الأكبر. عندما تم فرض اللواء إبراهيم عبد العاطي على مصر كلها بأجهزتها العلمية ومجامعها العلاجية ونقابة أطبائها ومفكريها وعلمائها، لم يكن أي ممن فرضوه مهموما بمشكلة الإيدز أو انتشار فيروس سي، ولم يكن النصاب العبقري حلا محتملا لأي مشكلة مطروحة. كان هناك من يعرفه، وكان له من النفوذ ما يجعل الرجل حلا قبل أن نعرف المشكلة. إلى اليوم لم نر شيئا. لم يظهر علاج، ولا شفاء، ولا إصبع كفتة، ولا حتى اللواء عبد العاطي نفسه. اختفى كل شيء مع الملايين التي أهدرت على خطوط تصنيع جهاز الوهم، والمستشفي الذی أقيم لاستقبال مرضاه في الاسماعيلية، كما اختفت مليارات التفريعة.

كلها حلول اخترعت دون اعتبار المشاكل، وانتهت أو ستنتهي بكوارث.

مالم ينتبه أحدهم إلى خطورة انتهاك المنطق والعقل قبل أي شيء، ستستمر قطاعات التعليم والصحة والأمن والسياحة والاستثمار في الانهيار، بينما يبحث أحدهم عن لودر هنا أو صفقة هناك. عن شفيق هنا أو أحمد هناك. حلول تفرض أو تخترع أو تأتي بالصدفة أو بالنية المبيتة دون أدنى رغبة في تحديد المشكلة والتفكير في منهج ورؤية وحلول منطقية لمشاكلنا. وفي النهاية سيسقط التمثال ويتحطم.

 

التعليقات