النظام العالمى الجديد.. وحرب الأسواق

روسيا، وإيران وكوريا الشمالية ليست الدول التي تقلق الولايات المتحدة الأمريكية بل الصين، التي تزحف بهدوء وتتغلغل بعمق شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لا ترفع لافتات حقوق الإنسان ولا تطارد المستبدين ولا تعاقب الفاسدين ولا تفرض قيمها أو ثقافتها أو لغتها، تذهب إلى الدول لتقدم نفسها كشريك وليس وصى. لا أحد يشعر بوجود الصينين، إلا بعد أن ينجزوا مشاريعهم الضخمة. أفريقيا التي تنتمى إليها مصر بحكم موقعها الجغرافى من أكثر القارات التي نالت اهتمام الصين، وتوغلت فيها وأصبحت لها مكانة ودور، حتى إن الرئيس الفرنسى ماكرون في زيارته الأخيرة للصين، طلب من الرئيس الصينى التنسيق بين البلدين في عدد من الملفات في أفريقيا، ونحن جميعا نعرف تصور الفرنسيين عن حقهم التاريخى في القارة السوداء، ليس هذا فقط ما يزعج فرنسا، لكن هناك أمرا آخر: لأول مرة تصبح الصين الممول الأول للجزائر، للعام الثانى على التوالى، وكانت هذه المكانة محجوزة لفرنسا على الدوام. كما أن الصين كانت من عوامل استمرار نظام البشير وعدم ملاحقته قضائيا، استخدمت حق الفيتو لوقف أي قرار يتخذ ضده ويطالب بمحاكمته دوليا عن جرائم دارفور، الصين تستثمر في السودان في مجال البترول والإنشاءات، والسياسة في خدمة الاقتصاد.

(2)

أفريقيا قارة يتصارع عليها الكبار، فهى في دور النماء، تحتاج كل شىء، عطشى للتطوير والحداثة، أسواقها فقيرة لم تتشبع بالبضائع، وفى المقابل لديها مخزون ضخم من المواد الأولية والبترول والغاز، الصين لم تتدخل أفريقيا مستعمرة مثل الدول الغربية التي نهبت خيراتها دون أن تعلمها الصيد، وحين خرجت ساندت حكاما يدينون لها بالولاء وتجاوزت عن فسادهم ونهبهم لأموال شعوبهم في مقابل مصالحها. الصين لا تطلب قواعد عسكرية، ولا امتيازات ولا تتعامل مع الأفارقة بغطرسة المستعمر وهيمنته وليس لديها شروط للاستثمار وتقديم القروض مثل صندوق النقد الدولى، لذا فتحت الدول الأفريقية أبوابها للصين دون تردد، وقامت الصين بمشروعات ضخمة عادت بالفائدة على هذه الدول، دون مساس بسيادتها أو تدخل في شؤونها الداخلية.

(3)

بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وبروز أمريكا كقطب واحد متحكم في العالم في أواخر ثمانينيات القرن الماضى، بدأت أمريكا في إجراء بعض التغيرات في سياستها الخارجية بما يتواءم مع الوضع الجديد، في سبتمبر 1993 أعلن عن ميلاد نموذج استراتيجي أمريكي جديد هو «سياسة التوسع» ليحل محل «سياسة الاحتواء» ومعناه انتشار الديمقراطية واقتصاد السوق مقابل الاستبداد والاقتصاد الموجه، ويشمل «التوسع» القارة الأفريقية، وحثها على الانخراط في اقتصاد السوق والليبرالية، وطرد بقايا الاستبداد والاقتصاد الموجه وفق الرؤية الأمريكية.

(4)

في عـام 1994م أعلـن وزير التجارة الأمريكي «روني بـراون» أن نظرية تقاسم المسؤوليات التي ترعرعت خلال الحرب الباردة لم يعد لها مكان اليوم وأن زمن «مناطق الصيد الخاصة» في أفريقيا انتهى إلى غير رجعة.

وفي أكتوبر من عام 1996م قام وزير الخارجية الأمريكي «وارن كريستوفر» بجولة أفريقية، بدأها بزيارة جمهورية مالي الدولة الفرانكفونية، وخلال جولته تم البحث عن شراكة جديدة سياسية وعسكرية بين القارة الأفريقية والولايات المتحدة الأمريكية.

وفى يونيو عام 1997 أطلق الرئيس الأمريكي بيل كلينتون مبادرة لأفريقيا والذي سعى لتسويقها خلال جولته الأفريقية الطويلة في أبريل 1998.

نجحت الولايات المتحدة في إغراء الأفارقة بالمشاريع التي طرحتها، ولقد أصبحت القارة الأفريقية مع بدايات عصر العولمة هدفاً «لدبلوماسية التجارة الكبرى»، التي جعلت منها الولايات المتحدة الأمريكية محور سياستها الخارجية، والزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي كلينتون لمدة أحد عشر يوماً كانت تحمل فكرة التكامل بين الديمقراطية والتجارة الحرة، وتقع في إطار ما تسميه الولايات المتحدة «تجديد أفريقيا». وأصبح لأمريكا قواعد عسكرية في أفريقيا ومرتكز قوى، لكن المنافس الحقيقى لها في القارة لم يعد الاستعمار القديم ولكن الصين.

(5)

منذ أن نصبت أمريكا نفسها الزعيم الأوحد للعالم، وانفردت بالقرارات الدولية، لم يجن العالم خيرا، الهيمنة القطبية الأحادية أفسحت المجال لإثارة الفوضى وتأجيج الحروب والصراعات الإقليمية والانحراف عن الاتفاقيات والقوانين الدولية، وظهرت العديد من المواقف التي تعبر عن ازدواجية معايير السياسة الأمريكية كما يحدث مع إسرائيل مثلا، السياسة الأمريكية ترتبط باعتبارات المصلحة القومية للولايات المتحدة والانحياز الواضح لحلفائها بغض النظر عن الأعراف والقوانين الدولية.

(6)

تدرك أمريكا أن الأمور في العقد الثانى من الألفية الثالثة لم تعد كما كانت، مازالت القوة العسكرية والاقتصادية رقم واحد، لكن الصين تلاحقها وخلال سنوات معدودة ستسبقها لتكون القوة الاقتصادية رقم واحد عالميا، وأمريكا تدرك أن الاقتصاد لابد له من قوة تحميه، وهى تشكك في الميزانية المعلنة لوزارة الدفاع الصينية، وتردد أنها أقل من الإنفاق العسكرى الحقيقى. الصين لم تستخدم قوتها العسكرية حتى الآن لفرض النفوذ أو الهيمنة أو الدفاع عن مصالحها الاقتصادية وفتح أسواق. لكن بالتأكيد الصراع القادم سيكون في الأساس صراعا حول الأسواق، وليس فقط على مصادر الطاقة والمواد الأولية كما كان.

(7)

الصين تعمل في دأب لتوسيع الأسواق أمامها وإنجاز المبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج عام 2013 بعنوان «حزام واحد- طريق واحد» التي تهدف لتطوير وإنشاء طرق تجارية وممرات اقتصادية تربط أكثر من 60 بلدا، ونظمت الصين في مايو من العام الماضى قمة مخصصة للاحتفال بإطلاق مبادرة «الحزام والطريق».

وتنفق الصين حاليا حوالي 150 مليار دولار سنويا في الدول الـ68 التي وافقت على المشاركة في المبادرة، وهي عبارة عن شبكة طرق تجارية تمر عبر جنوب آسيا لتربط الصين بدول جنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط وصولا إلى تركيا.

أوروبا تخاف من اجتياح السلع الصينية الرخيصة للقارة العجوز وتبحث فرض قوانين حماية لصناعتها أمام الصادرات الصينية، ماردده الغرب عن التجارة الحرة والعولمة وضرورة فتح الأسواق، سهم سيرتد إلى خصره بفضل الصين.

(8)

نائب رئيس مفوضية التنمية والإصلاح الوطنية الصينية صرح لوكالة الأنباء الرسمية الصينية بأن الغرض من قمة «الحزام والطريق»هو تأسيس قاعدة أكثر انفتاحا وكفاءة للتعاون الدولي، وشبكة أكثر قوة من الشراكات مع الدول المختلفة، والدفع باتجاه إنشاء نظام دولي أكثر عدلا وعقلانية واتزانا «وهنا مربط الفرس، النظام الدولى الحالى لم يعد صالحا، والسؤال أين مصر مما يحدث، وموقعها من هذا النظام الجديد؟ وهل استعدت له؟

التعليقات