النساء و صناعة الإعلام …. من يحتاج إلى الآخر؟!

يعِدُل السيد رئيس التحرير ربطة عنقه و يأخذ نفسا عميقا قبل أن يجيب عن السؤال : أنا لا يعنيني عدد الصحفيات في المؤسسة بقدر ما يعنيني كفاءة الصحفي أو الصحفية , في النهاية ما أحاسب عليه هو سير العمل و جودته , ثم يضيف قائلا : أنا لست المجلس القومي للمرأة .

والحقيقة أن منطق رئيس التحرير هو منطق وجيه, يمكن حتى لزميلات ليس فقط أن يبتلعنه , بل أن يتبنينه و يدافعن عنه, في النهاية كل منهن تؤمن بأنها صحفية ذات كفاءة وتريد أن ترتقي في عملها لأسباب تتعلق بكفاءتها و قدراتها التنافسية, و ليس من باب الكوتة أو التمييز الإيجابي, حتى لو كانت تعرف جيدا أن ظروف هذه المنافسة ليست عادلة دائما تجاهها, و ان عليها أن تتحمل ضغوطا تفوق زميلها, و أن تكون أكثر كفاءة منه بمراحل كثيرة حتى تتساوى معه في الفرصة!

كما يمكنها أيضا أن تشكر زميلها رئيس التحرير الذي يشفق عليها و يعفيها من المناوبات الليلية أو يرسل زميلها بدلا منها في مهمة تستلزم سفرا … في النهاية هي سيدة و لديها أسرة و تنجب أطفال , و هو الأمر الذي على ما يبدو لا ينطبق على زميلها , فكما نعرف فإن النساء يكوًن الأسرة و ينجبن الأطفال بمفردهن!! وبالتالي عليهن أن يتحملن ثمن ذلك وحدهن!

في الواقع فإن الكثير من المدراء و المديرات أحيانا يشعرون بالتردد عند اختيار فتاة أو سيدة في غرفة الأخبار أو ترقيتها إلى منصب قيادي , و بعضهم يشعر بالأسف تجاه مرؤوسته الموهوبة النشيطة عندما تقدم له دعوة حضور زفافها, فيرى أن تعيين “شخص” يتأثر أداؤه بمتاعب الحمل و إجازات الولادة و ظروف الأولاد أمر غير مجد اقتصاديا و يقلل من فاعلية فريقه,

وأعرف الكثيرات من الزميلات اللاتي اضطررن للعودة إلى العمل بعد أيام قليلة من الولادة بسبب الخوف من فقدان الوظيفة أو المصادر أو لعدم وجود أجازه أمومة مدفوعة , و هو ما يترك لديهن شعورا بالذنب طوال الوقت تجاه أطفالهن.

على كل حال دعونا نترك كل هذه الأمور جانبا لنخاطب السيد رئيس التحرير أو مالك المؤسسة الإعلامية باللغة التي يفضلها : أرقام التوزيع و كثافة المشاهدة و بالتالي الأرباح و العوائد التي تحققها المؤسسة ..

ففي الوقت الذي تعاني فيه الصحف و وسائل الإعلام من أزمة اقتصادية خانقة دفعت صحف كبرى إلى التخلي عن نسختها الورقية و ابتكار أشكال مختلفة للتمويل فإن البحث عن توسيع شريحة المتابعين هو أمر أساسي للاستمرار, و عندما يتعلق الأمر بنصف عدد السكان في معظم الدول فمن المؤكد أن الأمر لا يصبح اختياريا,

فإذا كان هناك عدد لا يحصى من الدراسات التي تتناول أهمية التنوع في غرف الأخبار و ضرورة تمثيل شرائح المجتمع الذي تخاطبه وسيلة الإعلام  و مكوناته المختلفة عرقيا و ثقافيا و عمريا, من أجل التعبير عنها و فهمها و القدرة على مخاطبتها , فإن دراسات متعددة , لاسيما مع تصاعد الأزمات الاقتصادية تربط بشكل مباشر بين وجود المرأة في مناصب تحريرية مؤثرة و بين زيادة جمهور الصحيفة أو المحطة من النساء, بل و تحسين نوعية القصص الاخبارية التي تنتجها , كيف ؟! دعونا نتوقف سريعا أمام بعض ما تقترحه هذه الدراسات :

فى الدراسات القديمة التي تناولت ما يعرف بحراسة البوابة ”  gatekeeping وجد الباحثون أن هناك اختلافا بين المحررين و المحررات في اختيارهم للمصادر و الأهمية التي يتم اعطائها لكل مصدر

لكن هل تختلف القرارات التحريرية التي تأخذها المرأة عن تلك التي يأخذها الرجل ؟

الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال كانت هدفا لعشرات الأبحاث التي أجريت على مدار السنوات, دعوني أتوقف معكم عند واحدة من أحدث الدراسات المنشورة و التى نشرتها أليسا Alyssa Zeisler المسئولة عن وضع استراتيجية الفايننشال تايمز للوصول إلى شرائح أوسع من الجمهور و زيادة التفاعل الجماهيري, بعد أن تستعرض السيدة زيسلر العديد من الأرقام من واقع غرف أخبار مختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية , يتضح فيها علاقة طردية بين عدد النساء اللاتي يشغلن مناصب تحريرية مرموقة و بين نسبة القارئات لما تنتجه هذه الصحف و التي شملت 12 صحيفة من أهمها وول ستريت جورنال و نيويورك تايمز و بوسطن جلوب و لوس انجلوس تايمز , تصل إلى نتيجة مفادها أن الصحف التي تحتل فيها النساء مناصب تحريرية عليا تزداد نسبة جمهورها من النساء و تختلف نبرتها التحريرية tone و في محاولة لتفسير ذلك تلجأ زيسلر لدراسات سابقة و دراسات حالة طلب فيها من صحفيين و صحفيين ترتيب الأخبار المتعلقة بقصة اخبارية وفقا لقيمتها التحريرية ووجد أن النساء تملن إلى وضع الأخبار الإيجابية في مقدمة القصة على خلاف الرجال هو ما يتوافق مع دراسات أخرى عن تلقي الأخبار حيث تميل النساء إلى تلقي و تذكر الأخبار المصاغة بشكل إيجابي ,أكثر من ذلك , تستشهد زيسلر بتجربة أجريت في احدى الصحف من خلال وضع عناصر قصة واحدة متعلقة بانتشار القوات الأمريكية في أفغانستان  أمام مجموعة من المحررين و المحررات و النتيجة كانت مثيرة :

فقد ذهب المحررون إلى فشل الحملة التي لم تؤد إلا إلى مصادرة  خمسمائة قطعة سلاح وتدميرها, بينما ذهبت المحررات إلى نجاح الحملة في مصادرة خمسمائة قطعة سلاح وتدميرها!

و بالتالي صياغة القصص من منظور إيجابي هو أحد المكاسب التي تعود على وسائل الإعلام عندما تتول المرأة القيادة في المناصب التحريرية, بالإضافة لزيادة شريحة المتابعين من النساء.

وتوجد دراسات مختلفة تتحدث عن نوعية الأخبار التي تغطيها النساء عادة في ظل انخفاض أعدادهن في غرف الأخبار فمن اللافت مثلا أن قلة المحررات في الشئون السياسية الخارجية و الاقتصادية و الرياضة يقابله على الجانب الآخر انخفاض في متابعة هذه القصص من قبل النساء , لذلك ربما يكون علينا قبل أن نتسرع في تحديد نوعية الموضوعات التي تفضل النساء متابعتها أن نسأل عن دور النساء في صناعة القصص المتعلقة بهذه الموضوعات, فربما تختلف النتائج . مع الأخذ في الاعتبار أن أحد اهم النتائج التي اشارت إليها الدراسات أن توسيع مشاركة المرأة في صناعة الأخبار وبالتالي استهلاكها هو أحد العوامل المؤثرة في زيادة المشاركة السياسية و المجتمعية للنساء.

أعود مرة أخرى لدراسة السا زيسلر التي تتناول العلاقة بين انتاج النساء للأخبار و بين متابعة النساء لها, إذ تتوقف الباحثة أمام تجارب مختلفة و مبدعة سواء قدمها أفراد مستقلون أو وسائل إعلام كبرى في محاولة التنافس على شريحة أوسع من القارئات أو المشاهدات لزيادة الجمهور الخاص بالوسيلة, و هي تجارب تستحق التوقف عند بعضها بقدر من التفصيل لاحقا.

أما في عالمنا العربي الذي دخلت فيه النساء مبكرا إلى غرف الأخبار, و شهد صحفا أسستها النساء تحديدا في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما أصدرت هند نوفل في الاسكندرية صحيفة ” الفتاة ” عام 1892 ثم تلتها العديدات مثل جميلة حافظ ثم روز اليوسف و درية شفيق و غيرهن , فالدراسات التي تتناول ظروف عمل النساء في غرف الأخبار و الضغوط الواقعة عليهن , أو الاحصائيات المتعلقة بنسبتهن ومقدار تأثيرهن في صناعة الأعلام و في اتخاذ القرارات المؤثرة تحريريا شحيحة و لا تتناسب مع عمر المهنة وحجم مساهمة النساء في هذه الصناعة منذ نشأتها .

لكن الخبر الجيد أن وجود هذه الدراسات التي تتناول تأثير وجود النساء في الوظائف التحريرية على زيادة المتابعين تكون حافزا لتوظيف و تدريب المزيد منهن للوصول لمناصب أعلى دون أن يشعر زميلي العزيز رئيس التحرير أنه مضطر للتمييز سواء ضدهن أو لصالحهن , و قد يضطر الزميل العزيز رئيس التحرير الثاني أن يحسن ظروف و بيئة العمل بدلا من التمييز ضدهن بدافع الشفقة ! و من يدري ربما تجبره الظروف الاقتصادية التي تدفع الصحف لزيادة متابعيها عبر توظيف المزيد من النساء إلى التحول لمناصرة قضايا المرأة و تقاسم الأعباء العائلية معها بشكل عادل.

( عن منتدى الاعلاميين )

التعليقات