المفقود فى حديث «الكمبوندات»؟!

كانت البداية فى شهر رمضان المعظم الفائت عندما كتب كاتب عما شعر به من هول تلك الإعلانات التى شاهدها على شاشة التليفزيون والتى انقسمت إلى قسمين: أولهما عن «الكمبوندات» الفاخرة حيث الفيلات الفارهة، والمبانى المترفة، والخضرة الزاهية، والحسان من الرجال والنساء والأطفال الذين يمرحون فى زهو وسعادة، وثانيهما الإعلانات التى نقلت عن المستشفيات والجمعيات الأهلية التى تجمع الأموال من أجل المرضى والفقراء، وكلها من الصور البائسة التى تتاجر بحالة الشعب. طرح الأمر باعتباره نوعا من الصورة المزدوجة لمصر بين الغنى والفقر، والفقراء والأغنياء، وسرعان ما تطور الأمر لكى يصير نوعا من الانقسام الطبقى مرة، وشهادة على الفساد مرة أخرى، وتشهيرا بالحالة المصرية مرة ثالثة. ما ذكره كاتب سرعان ما بات موضوعا لعدد من الكتاب الذين أعادوا قراءة خريطة الإعلانات الرمضانية كما لو كانوا يكتشفونها لأول مرة دون إعادة حقوق الاكتشاف لكاتبها الأول، ولكن الحقيقة التى لم يذكرها أحد أن الإعلانات لم تكن فقط «كمبوندات» و«فقراء ومرضى»، وإنما كانت أكثر تنوعا بكثير.

كان لشركات الاتصالات التى يستخدمها الغنى والفقير فى مصر نصيب ملحوظ، كما كان للشركات الغذائية التى تتناولها جميع الشرائح الاجتماعية، كل حسب النوع الذى يحبه، مساهمة لا يمكن تجاهلها، ولم تترك البنوك التى تجمع مدخرات المصريين الشهر الكريم دون الإعلان عن وجودها. المؤكد بعد المراجعة لما أذيع وذاع هو أن الإعلانات لن تكن منقسمة بالطريقة التى جرى تناولها وإنما كانت معبرة عن حاجة واحتياجات شرائح اجتماعية مختلفة أهمها الطبقة الوسطى المصرية.

وبغض النظر عما كان حقيقة يمكن مراجعتها، فإن إثارة موضوع «الكمبوندات» جرى فى إطار المفهوم الخاص بالانقسام الطبقى فى المجتمع، حيث بات سكان هذه التجمعات السكنية ينتمون إلى الطبقة الغنية وما عداهم فقراء أو من الطبقة الوسطى التى تنحدر يوما بعد يوم إلى دائرة الفقر الجهنمية. المفهوم ذائع فى الفكر اليسارى عامة، والماركسى بامتياز، ولكن توظيفه فى الساحة الفكرية، والسياسية أيضا، الآن فيه رؤية ذائعة لا تستند إلى واقع الحال بقدر ما تستند إلى الانطباع، ومن ثم تبدأ فى التحذير من حالة انقسام ممتد بين الغنى والفقر، والثروة والفاقة حتى يصل إلى أوضاع للانقسام الثقافى والفكرى الذى يفصل ما بين قسميه أسوار وأمن. مثل ذلك يوجد الكثير منه على مستوى العالم، وفى الولايات المتحدة يوجد ذيوع لفكرة أن ٩٠٪ من الثروة يمتلكها ١٪ فقط من الشعب، وهناك فإنها تستند إلى أرقام وإحصائيات حقيقية. ولكنها مثل الكثير الوارد فى أنحاء العالم يجرى تجاهل نصيب هؤلاء فى تنمية الثروة القومية بل وتنمية التشغيل والطبقة الوسطى عامة. ولا شك أن أسماء مثل بيل جيتس ووارن بافيت ومن هم فى درجاتهم من الغنى يعيشون فيما هو أكثر فخامة من «الكمبوندات»، ولكل منهم طائرته الخاصة، واستراحاته فى أماكن متعددة، ولكنه فى نفس الوقت لا يمكن التفكير فيهم دون التفكير فى ملايين العاملين الذين فتح هؤلاء أبواب العمل والثروة لهم.

فى مصر فإن حديث الكمبوندات يفتقر إلى الأرقام، لا عددها، ولا نسبتها من حجم الإسكان فى مصر، ولا تركيبتها الاجتماعية، فليس كل الكمبوندات سواء، وفيها ما هو مختلط ما بين ميسورين يعيشون فى وحدات متصلة أو منفصلة، وطبقة وسطى تعيش فى عمائر أفضل حالا من تلك الذائعة خارج هذه التجمعات. ما يجمع الجميع أمر واحد وهو «العمل» سواء كان ذلك فى داخل مصر بإنشاء المصانع أو إدارة المزارع أو تقديم الخدمات المهنية المختلفة استنادا إلى تعليم ومهارات على الأغلب جاء جزء منها من كفاح تعليمى فى خارج مصر للحصول على درجات علمية متقدمة، أما الغالبية العظمى فإنها تأتى من المصريين فى الخارج الذين دفعوا ثمن السكن عملا شاقا وغربة فى بلاد أخرى وتعد تحويلاتهم لشراء السكن أهم موارد العملات الأجنبية فى مصر.

التقسيم الطبقى، والصراع الطبقى المترتب عليه شائع فى فكر الاجتماع السياسى، وهو فى العادة يجعل سبب الغنى أو السكن فى الكمبوندات أنه يأتى على حساب الفقراء وليس نتيجة العمل والاجتهاد والابتكار والعلم والمعرفة. وفى المقابل تتولد صورة «رومانسية» للفقر باعتباره حالة اجتماعية نتيجة أسباب خارجية لا يتحمل الفقير أيا منها، ومن ثم تكون المغفرة له إذا ما جار على أراضى الدولة لكى يقيم عليها عشوائيات تنتفى عنها المسؤولية الاقتصادية حالة استخدام المرافق العامة دون حساب. ورغم أن الحكمة الإلهية ذكرت دائما أن المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، فإن التحليل الطبقى عادة ما يفضى أسباب القوة والعلو ليس إلى العمل والإنتاج والتشغيل والإدارة والاستثمار والمساهمة الأعلى فى الناتج المحلى الإجمالى والضرائب العامة، وإنما إلى الاستغلال أو أن الفارق فى حد ذاته يعد شهادة على ظلم واستغلال وبلطجة اقتصادية شريرة.

الجانب الخطير فى التحليل الطبقى أنه كثيرا ما يكون فى البداية نوعا من «التهديد» بثورة «الجياع»، وينتهى فى النهاية إلى محاولات للترويج السياسى بكسب الطبقات الأقل حظا فى المجتمع. وفى مجتمعات أخرى فإن أشكالا أخرى من الانقسام تستخدم لأغراض سياسية بحتة كما هو الحال الآن فى أوروبا بين المواطنين والأجانب المهاجرين، وفى الشرق الأوسط بين الأعراق والأجناس والمذاهب المختلفة، وفى أمريكا الشمالية على أساس اللون والدين. ولما كان أيا من ذلك لا يوجد فى مصر فإن الانقسام الطبقى يصبح وسيلة الرواج السياسى بديلا للانقسام الدينى الذى تستخدمه جماعة الإخوان والجماعات السلفية بوجه عام. والحقيقة أن مصر لن تتقدم فى ظل أى نوع من الانقسام، ولا أى نوع من إدارة الفقر فى البلاد، أو جذب الميسورين والمستورين لكى يكونوا أيضا فقراء، وإنما بالاستثمار فى التعليم والصحة وإدارة الثروة المصرية لكى تزول العشوائيات ويعود القانون مرة أخرى مطبقا على الجميع أيا كان مكانهم على السلم الاجتماعى فى «الكمبوند» أو فى «العشوائية»!.

** عن المصري اليوم

التعليقات