سجال العصور الوسطى

يعيد السجال الدائر فى بلادنا اليوم حول علاقة الدين بالدولة، ورأى رجال الدين السائد فى الأديان والمعتقدات بل والطوائف الأخرى، يعيد إلى الذاكرة ذلك السجال الذى دار فى أوروبا وهى تشق طريقها للخروج من العصور الوسطى أو عصور الظلام، فقد تسبب خلط الدين بالسياسة وتوظيف الدين فى خدمة الساسة من أباطرة وقياصرة إلى كوارث حقيقية تمثلت بالأساس فى تحول رجال الدين إلى أتباع أو شركاء لرجال السياسة، ومن ثم شاركوا فى ممارسة كل أشكال الظلم والقهر والنصب والفساد باسم الدين، أو على الأقل إيجاد مبررات دينية لتمرير ظلم الظالمين وفساد الفاسدين، بل إن رجال الدين أنفسهم بدأوا عملية الاتجار بالدين، فظهرت صكوك الغفران وبيع مواقع فى الجنة للبشر على الأرض مقابل المال، كما تسببت الخلافات الطائفية وصراع رجال الدين فى إشعال حروب أكلت الأخضر واليابس فى قلب أوروبا، يكفى أن نشير إلى حروب السبعين عاما التى اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا وانتهت بمعاهدة صلح وستفاليا عام ١٦٤٨ والتى وضعت أساس الدولة القومية التى تفصل ما بين الدين والسياسة.

وعلى الرغم من ذلك ظلت أوروبا تعانى من بقايا الحروب الدينية المختلطة بعنصر القومية حتى نهاية القرن العشرين، كما كان الحال فى أيرلندا حيث استمر الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت وشهد أشكالا بشعة من القتل على الهوية، إلى أن تمكن السيناتور الأمريكى جورج ميتشيل من إبرام اتفاق الجمعة العظيمة الذى أنهى هذا الصراع عام ١٩٩٨. ولم تتخلص القارة الأوروبية من بعض جيوب خلط الدين بالسياسة والتى تفجرت فى قلبها من جديد فى منطقة البلقان، حيث تفجر صراع الكروات (الكاثوليك) مع الصرب (الأرثوذكس) مع البوشناق والألبان (المسلمين)، الأمر الذى انتهى بعملية تقسيم شامل ليوغوسلافيا إلى سبع جمهوريات مستقلة تستند بالأساس على التوزيع العرقى / الدينى / الطائفى.

خرجت أوروبا من سياسة خلط الدين بالسياسة والصراع على أرضيات دينية طائفية بخسائر هائلة ودمار شديد، وفى اللحظة التى حسمت فيها الشعوب الأوروبية الموقف بالفصل التام بين الدين والسياسة بدأت عصر التنوير وطريق التقدم والتطور الشامل، تخلصت من العقبات التى كانت تقف فى وجه إرساء قيم العدل، الحق، المساواة، الحرية والمواطنة، فهذه القيم جميعها تجرح بقوة إذا أضيفت إليها صفات محددة كأن تعطى الأولوية لاتباع ديانة أو طائفة، هنا تجرح هذه القيم الإنسانية الراقية، فالصفة الأساسية لهذه القيم أنها عامة مجردة، لا تقبل حصرها أو تقييدها لاتباع دين أو طائفة، هنا لا تعد قيما إنسانية راقية بل أداة من أدوات الظلم والتمييز بين البشر.

إذا عدنا إلى ما يجرى فى مجتمعنا المصرى فسوف نجد السجال الدائر حول علاقة الدين بالدولة، التمييز الطائفى، الطعن فى الأديان والعقائد والمعتقدات الأخرى، نشر الخرافات باسم الدين، الإغراق فى حالة من التدين الشكلى الشديد دون صلة حقيقية بقيم الدين الأصيلة، الاتجار بالدين من بعض رجاله والمنتسبين إليه، كل ذلك يقول إننا فى مصر لم نخرج من شرنقة العصور الوسطى فى هذه القضية تحديدا، ونقول أيضا إن هذه المعركة التى جرت محاولات حسمها مرارا وتكرارا دون جدوى، يبدو أننا فى الطريق لحسمها هذه المرة بفعل زيادة درجة الوعى المجتمعى من ناحية ووجود إرادة سياسية عليا من ناحية ثانية، لكن هناك فجوة كبيرة وهوّة ساحقة بين الإرادة العليا والحال على المستويات الأدنى والتى تقاوم إجمالا هبوط الرؤية على الأرض، لكل ذلك يبدو صعبا للغاية تصور سهولة حسم المعركة مع إدراك المغانم الكثيرة والمنافع العديدة التى يحصل عليها رجال الدين والسياسة أيضا من وراء عملية الخلط، إضافة إلى اتساع فئة المستفيدين ومن ثم المقاومين للخروج من شرنقة القرون الوسطى.

التعليقات