لازم ولكنه غير كافٍ

الديمقراطية شكل من أشكال نظم الحكم، جاء فى سياق تطور طبيعى للمجتمعات الغربية التى بدأت من المدينة اليونانية، والتى تمثلت فى البداية فى الديمقراطية المباشرة، والتى كانت تتمثل فى اجتماع الرجال اليونانيين الأحرار فى ساحة بالمدينة، يناقشون قضايا دولتهم الداخلية والخارجية، ويتخذون القرارات اللازمة.

وبمرور الوقت ومع تزايد عدد سكان الدولة وتزايد عدد المواطنين من الرجال الأحرار، لم تعد ساحات المدينة كافية لاجتماعاتهم، ومن ثم ظهرت الديمقراطية التمثيلية والتى تعنى اختيار ممثلين عن المواطنين من الرجال الأحرار، بشكل متوازن، بمعنى اختيار شخص ممثل لكل مائة أو ألف مواطن، يجتمعون فى مكان محدد لمناقشة قضايا بلادهم الداخلية والخارجية واتخاذ القرارات اللازمة.

وتطور الأمر بعد ذلك بوضع أساس فصل بين السلطات الثلاث بحيث يتولى الممثلون المنتخبون أو المختارون سلطة التشريع والرقابة على أداء السلطة التنفيذية (الحكومة)، مع تولى القضاء الفصل فى المنازعات. وبمرور الوقت تطورت النظم وأضاف العلماء والفلاسفة قواعد وأسسا لضبط النظم الديمقراطية، وصولا لفكرة العقد الاجتماعى، بحيث سقطت نظرية التفويض الإلهى للملك أو القيصر المتحالف مع رجال الدين، وبات التفويض شعبيا، وظهرت هذه النظرية التى تقول إن الحاكم هو موظف عام مفوض من الشعب بموجب عقد محدد الشروط والمواصفات (الدستور)، من حق الشعب فى حال عدم الوفاء بشروط العقد أن يسلبه التفويض ويسحبه منه.

التعريف المبسط لنظام الحكم الديمقراطى يقول إن الشعب هو مصدر السلطات، هو مصدر السيادة، هو الذى يحكم (عبر التفويض أى اختيار الحكام) وهو وحده صاحب الحق فى التجديد لهم (لحدود معينة عادة دورتا حكم) وله وحده سحب التفويض أو استرداد التكليف. تنفرد الديمقراطية عن غيرها من أشكال الحكم بكونها شكلا من أشكال الحكم لا يقف بمفرده، بل يستند إلى منظومة من القيم الإنسانية مثل المساواة، الحرية والعدل، فالديمقراطية فى ذاتها شكل من أشكال الحكم وهى عبارة عن مجموعة إجراءات (تعدد الأحزاب، صوت واحد لكل مواطن، الانتخابات الحرة النزيهة، دورية الانتخابات وتداول السلطة) لا تستقيم دون مصاحبة القيم الانسانية، ولا يمكن اختزال الديمقراطية فى مجموعة إجراءات كالانتخابات الحرة، مثلا، فقد تجرى نظم حكم انتخابات دورية، وقد تكون نزيهة دون أن يعنى ذلك أن نظام الحكم ديمقراطى، كما أن هذه الانتخابات الحرة لا تفرز بالضرورة حكاما ديمقراطيين أو يحترمون الديمقراطية، بالعكس هناك تجارب فى التاريخ أفرزت الانتخابات الحرة، فيها حكام مستبدون، سرعان ما ألغوا الديمقراطية، وانتهكوا حقوق المواطن، ومنهم من جاء بالديمقراطية، وأشعل حربا كونية (هتلر جاء بالديمقراطية، وأشعل الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها خمسون مليون إنسان).

من هنا نؤكد أن الانتخابات الحرة النزيهة شرط لازم لاكتمال الديمقراطية، لكنها ليست شرطا كافيا، فوجودها ضرورى لاكتمال الديمقراطية، ولكن وجودها فى ذاته لا يعنى بالضرورة أن النظام ديمقراطى، فلا بد من توافر القيم الإنسانية الأخرى المصاحبة للديمقراطية كالعلمانية، بمعنى فصل الدين عن السياسة وحياد الدولة تجاه الأديان والوظائف دينية للدولة، وكذلك الحرية والمساواة والعدل.

السؤال هنا: هل يمكن إقامة نظام حكم ديمقراطى فى دول متخلفة اقتصاديا، وفى ظل طبقة وسطى هشة وضعيفة وطبقة دنيا كبيرة، أو ارتفاع نسبة السكان تحت خط الفقر وفوقه مباشرة وارتفاع معدلات الأمية الهجائية والثقافية أيضا؟

الإجابة العامة تقول بصعوبة وضع أسس نظام ديمقراطى حقيقى فى مجتمع يئن غالبية سكانه من الفقر، وينتشر بينهم الجهل، وأن الانتخابات فى مثل هذه المجتمعات عادة ما تشهد ظواهر مثل شراء الأصوات وتوظيف الدين فى جلب الأصوات، كما أن الاعتبارات المعنوية والقيم الإنسانية مثل الحرية والكرامة لا تعتبر أولوية لدى الفئات الفقيرة التى ينصب جل همها على تلبية الاحتياجات الأساسية، وفى حال تحسن الأوضاع الاقتصادية واتساع مساحة الطبقة الوسطى ووزنها، وارتفاع معدلات التعليم وفتح أفق الانتقال الطبقى أى الصعود الاجتماعى يدفع فى اتجاه السعى نحو اعتبارات قيمية ومعنوية ومن ثم المطالبة بالديمقراطية كشكل من أشكال الحكم.

الخلاصة تحقيق معدلات تنمية مرتفعة وبشكل مستمر يعنى لاحقا ضرورة تحول النظام السياسى إلى الآخذ بالديمقراطية أو السير باتجاه النظام الديمقراطى، يمكن اعتبار ذلك قاعدة عامة، جرت فى كوريا الجنوبية وغالبية دول أمريكا اللاتينية ومؤخرا بعض الدول الإفريقية، وبالطبع لكل قاعدة استثناءات، ومنها على سبيل المثال التجربة الصينية التى حققت معدلات تنمية مرتفعة، ولكنها لا تزال تقاوم التحول الديمقراطى، عكس التجربة الهندية التى بنت نموذجا ديمقراطيا فى ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية.

** عن المصري اليوم

التعليقات