هذا النوع من الجرائم

إلى أى حد نعرف المجتمع الذى نعيش فيه؟ مصادر قوته، ومواطن ضعفه.
لا يصح إطلاق الأحكام إذا لم تكن هناك دراسات ميدانية تبحث وتستقصى ما هو تحت سطح المجتمع، من تفاعلات وتغيرات، تعبر عن نفسها أحيانا فى الجرائم الجنائية.
معدلات الجرائم الجنائية، وأنواعها المعتادة والمستجدة، ومستوى تفيشها، ومدى خطورتها، ورسائلها المسكوت عنها؛ عناوين رئيسية لأى قراءة فى خرائط المجتمع الظاهرة والخفية.
الأبحاث الميدانية ــ كاستطلاعات الرأى العام ــ تتطلب أكبر قدر ممكن من الاستقلالية والحيدة، وإلا فقدت قيمتها وانتحرت على قارعة الطريق.
بقدر ما يتوافر من حرية فى البحث الاجتماعى تتبدى الحقائق أمام المجتمع، كأنه ينظر فى المرآة إلى أزماته حتى يمكنه خفض مخاطرها.
هناك فى مصر مراكز أبحاث تراكمت فيها خبرات وتقاليد علمية على مدى عقود، أهمها «المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية»، الذى تأسس منتصف خمسينيات القرن الماضى، غير أنها شبه معطلة عن أداء مهامها.
فى الأسابيع والأيام الأخيرة التفت الرأى العام ــ مصدوما ومنزعجا ــ إلى تواتر أنواع جديدة من الجرائم الجنائية، غير معتادة وغير متصورة، أخطرها باليقين قتل أطفال وصبية على يد آبائهم وأمهاتهم.
كيف حدث ذلك؟ ولماذا الآن؟
السؤال يدخل بالضرورة فى علم النفس الاجتماعى.
فى سبعينيات القرن الماضى استلفت نظر عميد علماء الاجتماع العرب، الدكتور «سيد عويس»، مقتل أم على يد ابنها.
فى حدود علمه لم تكن هناك جريمة مماثلة فى التاريخ الاجتماعى المصرى، الذى دأب على تقديس الأم.
كان ذلك نذيرا مبكرا لهذا النوع من الجرائم، الذى لم يعد مستغربا.
ما يحدث الآن يمثل تحولا ما من قتل الأمهات إلى قتل الأبناء.
فى التسعينيات شاعت ظاهرة قتل الأزواج بالسواطير.
بالوقت قد تفقد مثل هذه الظواهر صدمتها، كأنها جرائم عادية ومعتادة.
الحقيقة أنها ليست كذلك، وتؤشر على تفشى العنف الأسرى إلى مستويات منذرة، تأخذ من المجتمع تماسكه، وتضرب ثقته فى نفسه، وتسحب على المفتوح من قيمه الأخلاقية، وتضع مستقبله أمام عنف أكبر سوف يجىء.
إذا ما تفشى العنف الأسرى ــ تحت ضغط الأزمات الاقتصادية المستحكمة ــ فإن كل السيناريوهات واردة.
فى «دار السلام»، أحد الأحياء القاهرية الفقيرة، ماتت فتاة شابة بطعنة سكين دون قصد، عندما حاولت التدخل لفض مشاجرة بالأيدى بين والديها، على خلفية امتناع الأم عن تلبية طلبه فى الحصول على مبلغ مالى صغير قال إنه يحتاجه.
ما حدث تعبير عما يمكن أن نطلق عليه «القتل لأوهى سبب» تحت ضغط الحاجة الاجتماعية والفقر المخيم.
قتل الأبناء عمديا قضية أخرى.
فى المنيا ــ التى تقع جنوب مصر ــ ألقت ربة أسرة فقيرة ابنيها فى بحر يوسف، مات أكبرهما (4) سنوات وأنقذ الآخر الرضيع (6) أشهر.
ككل محافظات الصعيد تفتقر المنيا إلى جودة التعليم والصحة، وترتفع فيها معدلات البطالة ونسب الفقر، وفق تقارير التنمية البشرية.
بالأرقام الرسمية تبلغ نسبة الأمية (26%) ونسبة الفقر نحو (28%)، وفى الصعيد تؤشر الأرقام إلى فداحة مستويات المعيشة.
أسوأ استنتاج ممكن لأسباب الجريمة تقبل تبريرها حسب اعترافات الأم بسوء معاملة زوجها!
حسب أرجح الأرقام المتداولة لمعدلات الطلاق فإن نسبته تصل إلى نحو (40%).
إذا تصورنا أن أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع معدلات الطلاق يعود إلى سوء معاملة الأزواج، فإن نصف أطفال البلد تحت الخطر الداهم.
بذات القدر يصعب النظر بجدية إلى تفسيرات الأب الذى ألقى طفليه من فوق كوبرى فارسكور فى النيل، من أنه فعل ذلك حتى يضمن لهما دخول الجنة من فرط حبه لهما.
مثل هذا الكلام يستحق فحصا من أطباء نفس، حتى تستبين الأسباب الحقيقية للجريمة، فما هو معلن لم يقنع أهل قريته، وجرت صدامات مع الأمن.
الصدامات بذاتها تعبير عن احتقان اجتماعى مكتوم، قد ينفجر فى لحظة أو أخرى، كما أنها تعبير عن فجوات متسعة بين الشرطة وشعبها، تستحق الاعتراف بها والعمل على تصحيحها وفق قواعد دولة القانون.
الأزمة الاقتصادية لا تصلح وحدها لتفسير قتل الأبناء، هناك خلل ما فى بنية الثقافة العامة يشجع على مثل هذا السلوك العنيف الشاذ.
غياب مشروع ثقافى جدير بالالتحاق بعصره، يفتح مسام المجتمع أمام كل إبداع واجتهاد، يوفر بيئة فقيرة فى روحها وفكرها لتمركز الجماعات الإرهابية وتفشى ثقافة العنف.
ربما تصلح حادثة الأستاذ الجامعى الطبيب الجراح، الذى قتل ابنه بالضرب المبرح قبل أن يرمى جثته حيث وجدت، مثالا على تفشى العنف الأسرى.
لم يكن قتل الأبناء الظاهرة الوحيدة فيما استجد من جرائم لا سابق لها بالتاريخ الاجتماعى المصرى.
كان مقتل الأنبا «أبيفانيوس»، رئيس دير أبو مقار، على يد اثنين من الرهبان، أحدهما نفذ الجريمة والآخر شارك فى تخطيطها ومحاولة التغطية عليها، حدثا مروعا، لا سابق له فى حدود ما هو معروف.
تبدت مكاشفات غير معتادة وإجراءات حاسمة داخل الكنيسة القبطية، ساعدت على تطويق أى آثار سلبية محتملة.
فى السنوات الأولى من القرن الحالى أدى نشر ما أسميت «فضائح الراهب المشلوح» بإحدى الصحف الخاصة القريبة من الدولة؛ إلى مشاحنات طائفية كادت تفلت إلى فتن مشتعلة.
لم يحدث أى مشاحنات خطرة على خلفية مقتل الأنبا «أبيفانيوس»، بسبب الشفافية النسبية التى تبدت فى المعالجة وإدراك جميع الأطراف لخطورة اللعب بالنار الطائفية.
ما هو مستجد من جرائم جنائية يدخل بالضرورة فى سياق أوسع يفسره ويذكى نيرانه.
فى ذلك السياق هناك تفاقم فى الجريمة المنظمة، شاملة عصابات الاتجار فى الأعضاء البشرية، وخطف الأطفال، والسرقة بالإكراه، واقتحام البنوك، والاستيلاء على حقائب شركات نقل الأموال.
تقليديا لا تعرف مصر عصابات الجريمة المنظمة، لكنها ماثلة الآن.
وهذا عبء إضافى على سلطات الأمن، فى وقت حرب مع الإرهاب يستدعى رفع مستوى الكفاءة والجاهزية وإصلاح الجهاز الأمنى، وفق مقتضيات الدستور.
ما تحتاجه مصر أمام هذا النوع من الجرائم أن تواجه نفسها بحقائق مجتمعها، أن تتنفس دون كبت، وتعترف بالأخطار الماثلة دون إنكار، وتعمل على مواجهتها دون إبطاء.

 

التعليقات