الأحزاب والديمقراطية

عرفت مصر الحياة البرلمانية، منذ قرن ونصف القرن، وعرفت التعددية الحزبية، منذ أوائل القرن العشرين، وشهدت حياة برلمانية شبه ديمقراطية، منذ أوائل العقد الثالث من القرن الماضى، وتطور النظام السياسى المصرى باتجاه ملكية شبه دستورية، وشهدت الحياة الحزبية والسياسية المصرية ازدهارًا تدريجيًا إلى أن قامت ثورة يوليو ١٩٥٢، فقضت على النظام القائم، ثم ألغت الأحزاب، ودخلنا فى ظاهرة نظام الحزب الواحد المسيطر والمهيمن. وعندما أراد السادات اتباع التعددية الحزبية، بدأ بنظام المنابر، ثم جاء نظام التعددية الحزبية الشكلية، حيث تكونت مجموعة من الأحزاب السياسية الكارتونية، كى تلعب دور المعارضة الشكلية للحزب الحاكم الذى كان يوزع على الأحزاب عدداً من المقاعد البرلمانية فى مجلس الشعب، ويعين رؤساء هذه الأحزاب فى مجلس الشورى، ويمنح كل حزب نصف مليون جنيه سنويا من ميزانية الدولة لقاء لعب هذا الدور.

هكذا قضت ثورة يوليو ١٩٥٢ على التعددية الحزبية فى البلاد، وعندما أرادت إعادة التجربة كانت نسخة مشوهة لأحزاب كارتونية رسم لها دور المعارضة الشكلية لقاء مكاسب محددة من الحزب الحاكم. استمر الحال كذلك حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، عندما سقطت بقايا نظام يوليو، وظهرت عشرات الأحزاب السياسية التى تجاوزت الثمانين حزبا، وما استجد منها، بعضها من زمن الحزب الوطنى اتسم بالضعف الشديد، فيما عدا أحزاب الإسلام السياسى، وتحديدا حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفى، وانتهت التجربة بسقوط مدوٍ لأحزاب الإسلام السياسى، وتم حل حزب الحرية والعدالة، وتبقى حزب النور وعدد من الأحزاب الهامشية التى تمثل نسخًا مختلفة للإسلام السياسى.

تتسم الأحزاب المدنية الحالية جديدها وقديمها بالضعف الشديد، بحيث يمكننا القول بانتهاء زمن حزب الأغلبية فى البلاد، وأن ما لدينا من أحزاب سياسية لن يحصل أى منها على الأغلبية، وأن الحزب الأول من بينها لم يتجاوز ١٠٪ من مقاعد البرلمان.

نعم، الأحزاب المدنية ضعيفة، ولكنها أحزاب حشدت لثورة الثلاثين من يونيو ولعبت دورا مُهمًا فى هذه الثورة، كما دعمت غالبيتها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى السباق الانتخابى، ومن ثم كان لها دور فى انتخاب الرئيس. أيضاً ورغم عشرات الملاحظات على غالبية هذه الأحزاب، فإننا نراهن عليها فى تطوير نظام سياسى ديمقراطى يقوم على التعددية والعمل مع الرئيس السيسى ومساعدته فى تنفيذ برنامجه، ومن ثم فهذه الأحزاب مهمة أيضاً للمرحلة القادمة ومهمة لنجاح الرئيس فى أداء مهامه.

غاية ما نود التأكيد عليه هنا هو أنه لا حياة سياسية دون أحزاب، ولا ديمقراطية دون تعددية حزبية، وما يبدو واضحا أن النظام فى مصر فى حاجة ملحة لإعادة النظر فى موقفه من الأحزاب المدنية، فمهما كانت تحفظاته وملاحظاته على هذه الأحزاب، ونحن معه، فلا تطورَ سياسىَّ وديمقراطىَّ دونها، وتجاهل دور هذه الأحزاب والعمل على تقزيمها والسيطرة عليها أمور تكبل تجربة التحول الديمقراطى فى البلاد، وتجعل التجربة هشة للغاية، وتدور ما بين القلب الصلب للدولة المصرية والإسلام السياسى، ولا بديل لهما، وهو أمر يمثل عبئا شديدا على مصر وشعبها، فلابد من الإقرار بأهمية وجود وأدوار الأحزاب السياسية المدنية لتطوير تجربة بلادنا فى التحول الديمقراطى التدريجى والذى ينهض على أساس من التطور الاقتصادى أولا، فلا ديمقراطية حقيقية فى بيئة فقيرة يسودها الجهل، ومن ثم لا بد من تحقيق معدلات مرتفعة من التنمية وتحسين مستويات معيشة الشرائح الدنيا، بل الوسطى فى المجتمع، وأيضا القضاء على الجهل والأمية أولا، حتى يترسخ أساس الديمقراطية فى الثقافة المصرية كقيمة وأيضا القيم المصاحبة كالعدل، والحرية، والمساواة، وحرية العقيدة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، ووضع أساس قوى للفصل ما بين الدين والسياسة.

إذا تحقق ذلك، فسوف يكون بناء نظام سياسى ديمقراطى مسألة وقت لا أكثر.

**عن المصري اليوم

التعليقات