الأحزاب والديمقراطية مرة أخرى

تلقيت عشرات التعليقات على مقال الأسبوع الماضى بعنوان الأحزاب والديمقراطية، وكانت أغلب التعليقات تدور حول هامشية الأحزاب المدنية ومحدودية تأثير النخبة المدنية فى الشارع، وصولا إلى من قال بعدم أهمية الأحزاب السياسية المدنية فى البلاد وأنها ووجودها كالعدم.

جاءت هذه التعليقات ردا على ما كتبت بأنه لا حياة سياسية ديمقراطية دون أحزاب سياسية، وقد جاءت هذه التعليقات من مواطنين مصريين متعلمين أى حاصلين على مؤهلات علمية متوسطة وعليا فى التخصصات المختلفة، وهو ما أصابنى بقدر كبير من القلق على أساس أن هؤلاء يفترض أنهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى على اختلاف شرائحها من الوسطى/ العليا إلى الوسطى/الدنيا، تبنوا جميعا خطابا معاديا للديمقراطية به قدر من الغوغائية والسطحية أيضا، أسقطوا تاريخ الحياة السياسية فى بلادنا وباتوا أسرى لخطاب معاد للديمقراطية، أسقطوا تجربة بلادنا بعد دستور ١٩٢٣ والتى أقامت حياة سياسية ديمقراطية فى ظل ملكية شبه دستورية كانت متقدمة فى زمانها على تجارب دول أوروبية عديدة، كانت لدينا تجربة ديمقراطية فى وقت كانت نظم الحكم الديكتاتورية والسلطوية والمستبدة تسيطر فيه على غالبية دول العالم بما فيها دول أوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا. كانت لدينا تجربة تعددية حزبية مدنية متقدمة بمعايير الزمان والمكان، وكان حزب الوفد يقود الحياة السياسية فى البلاد وكان تداول السلطة يجرى بين الأحزاب فى ذلك الزمان.

جاءت حركة الجيش فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ لتنهى التجربة الديمقراطية المصرية وتدخل البلاد فى مرحلة من الشعبوية، وروجت عبر التعليم ووسائل الإعلام لمقولات فساد الأحزاب السياسية والنخب المدنية وتعهدت بإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وهو ما لم يتم حتى اللحظة. جرى تأجيل العملية الديمقراطية بحجة تحرير فلسطين ثم إزالة آثار عدوان يونيو ١٩٦٧، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وبعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ وتوقيع اتفاق السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٩ تم تفصيل تعددية حزبية شكلية استمرت فى أواخر عهد السادات وطوال عهد مبارك.. وجرى خلال عهدى السادات ومبارك هندسة اللعبة مع التيار الدينى من إخوان وسلفيين بحيث يتواجدان فى الساحة السياسية على حساب الأحزاب المدنية حتى يتم انتزاع موافقة الغالبية والغرب على نظام الحكم القائم على علاته لأن بديله سيكون التيار الدينى، ومن هنا نفهم سياسة النظم فى ضرب الأحزاب المدنية وتشويه النخب المدنية وتدجينها كى تعمل تحت أقدام السلطة تروج وتبرر لها ما تعمل.

"المصري اليوم"

ثم جاءت ثورة ٢٥ يناير ففتحت المجال أمام إنشاء وتأسيس أحزاب حقيقية وتم السماح بإنشاء أحزاب على أساس دينى، ونظرا لإنهاك القوى المدنية على يد نظم الحكم، انتشار الجهل والفقر، فقد كان منطقيا أن تحصل الأحزاب الدينية على الاغلبية وتفوز بمنصب رئيس الجمهورية وتبدأ فى محاولات تغيير الهوية الوطنية المصرية، فكانت ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ التى لعبت فيها الأحزاب والقوى المدنية دورا جوهريا. وبعد حظر حزب الجماعة، الحرية والعدالة، تقدمت الأحزاب المدنية مثل المصريين الاحرار ومستقبل وطن والوفد وحصلت على المراكز الثلاثة الاولى فى الانتخابات البرلمانية التى جرت عام ٢٠١٥.

وبمرور الوقت بدأت عملية استهداف الأحزاب المدنية مرة أخرى فتمزق حزب المصريين الأحرار، وتراجع الوفد وبدأ العمل لتأسيس حزب أغلبية يكون حاكما فى الفترة القادمة بحيث يهيمن على الحياة السياسية لنعود من جديد إلى المربع الأول، وهو ما حذرت وأحذر منه مجددا فلا ديمقراطية دون تعددية حزبية، ولا ديمقراطية قبل نشر التعليم المدنى العلمى، والقضاء على الفقر والحاجة ورفع مستويات المعيشة ونشر الفكر العقلانى وإعلاء قيمة العقل، وفصل الدين عن السياسة. هى عملية طويلة ومعقدة المهم فيها وضوح الرؤية وتحديد الغاية والهدف ومن ثم طلقة البداية التى لم تتم بعد.

التعليقات